ومبادئ سائر النعم الدنيوية ، وسلب التفاوت عنها لمطابقة بعضها بعضا ، وحسن انتظامها وتناسبها. وإنما قال (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) لأن تكرار النظر ، وتجوال الفكر ، مما يفيد تحقق الحقائق وإذا كان ذلك فيها عند طلب الخروق والشقوق ، لا يفيد إلا الخسوء والحسور ، تحقق الامتناع ، وما أتعب من طلب وجود الممتنع. انتهى.
ولو جعل قوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) مستأنفا ، مقررا بعمومه لتناسب خلقه وإتقانه ، وتناهي حسنه ، فيشمل ما قبله ـ لكان أولى من تخصيصه بوصفية ما قبله ، ويكون كآية : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة : ٧] ، وآية : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل : ٨٨] ، وتلطف بعضهم فقال : في الآية إشارة إلى قياس تقديره : ما ترى فيها من تفاوت لأنها من خلقه تعالى. وما ترى في خلقه من تفاوت.
الثاني ـ للإمام ابن حزم رحمهالله كلام في هذه الآية في كتاب (الفصل) ساقه في مباحثه مع المعتزلة ، نأثره هنا لنفاسته ، قال رحمهالله :
التفاوت المعهود هو ما نافر النفوس ، أو خرج عن المعهود ، فنحن نسمي الصورة المضطربة بأن فيها تفاوتا ، فليس هذا التفاوت الذي نفاه الله تعالى عن خلقه ، فإذن ليس هو الذي يسميه الناس تفاوتا ، فلم يبق إلا أن التفاوت الذي نفاه الله تعالى عما خلق هو شيء غير موجود فيه البتة ، لأنه لو وجد في خلق الله تعالى تفاوت ، لكذب قول الله عزوجل (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) ولا يكذب الله تعالى إلا كافر ، فبطل ظن المعتزلة أن الكفر والظلم والكذب والجور تفاوت ، لأن كل ذلك موجود في خلق الله عزوجل ، مرئيّ فيه ، مشاهد بالعيان فيه ، فبطل احتجاجهم.
فإن قال قائل : فما هذا التفاوت الذي أخبر الله عزوجل أنه لا يرى في خلقه؟
قيل لهم : هو اسم لا يقع على مسمى موجود في العالم أصلا ، بل هو معدوم جملة ، إذ لو كان شيئا موجودا في العالم ، لوجد التفاوت في خلق الله تعالى. والله تعالى قد أكذب هذا ، وأخبر أنه لا يرى في خلقه.
ثم نقول ، وبالله تعالى التوفيق : إن العالم كله ما دون الله تعالى ، وهو كله مخلوق لله تعالى ، أجسامه وأعراضه كلها ، لا نحاشي شيئا منها. ثم إذا نظر الناظر في تقسيم أنواع أعراضه ، وأنواع أجسامه ، جرت القسمة جريا مستويا في تفضيل أجناسه وأنواعه ، بحدودها المميزة لها ، وفصولها المفرقة بينها ، على رتبة واحدة ،