(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ) أي لذلك اليوم من عمل صالح أو سيّئ (وَأَخَّرَتْ) أي تركت من خير أو شر. أو المعنى : ما قدمت من عمل طيب لم تقصر فيه ، وما أخرت أي قصرت فيه. والمراد بالعلم بالتقديم والتأخير ، وجدان الجزاء عليهما ، وتحقق مصداق الوعد عليهما.
القول في تأويل قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٨)
(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) أي : أيّ شيء خدعك وجرّأك على عصيانه والانحراف عن فطرته. وذكر (الْكَرِيمِ) للمبالغة في المنع عن الاغترار. لأنه بمعنى العظيم الجليل الكامل في نعوته. ومن كان كذلك فجدير بأن يرهب عقابه ويخشى انتقامه وعذابه. لا سيما وله من النعم العظيمة والقدرة الكاملة ما يزيد في الرهبة ، كما قال : (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) أي جعلك سويّا متساوي الأعضاء والقوى. وأصل التسوية جعل الأشياء على سواء. فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها بإعطائها ما تتم به (فَعَدَلَكَ) أي جعلك معتدلا متناسب الخلق ، معتدل القامة. لا كالبهائم. وقرئ بالتخفيف وهو بمعنى المشدّد ، أو بمعنى صرفك عن خلقة غيرك إلى خلقة حسنة ، مزت بها على سائر الحيوان (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أي : في أي صورة شاءها ركبك عليها. يعني أنه ركّبك في صورة هي أبدع الصور وأعجبها. ف (أيّ) استفهامية. والمجرور متعلق ب (رَكَّبَكَ) و (ما) زائدة وجملة (شاءَ) صفة (صُورَةٍ). والقصد أن من خلق هذا الخلق البديع وسوّاه وعدله بقدرته وتقديره ، حتى أحكم صورته في ذلك التركيب ، لجدير بأن يتّقى بأسه ويحذر بطشه ويرهب أشد الترهيب.
تنبيه :
قال الإمام ابن القيّم في (الجواب الكافي) في بحث كون القرآن من أوله إلى آخره صريحا في ترتيب الجزاء بالخير والشر ، والأحكام الكونية ، على الأسباب ، ما تتمته : فليحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب ـ وهذا من أهم الأمور ـ فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرّة له في دنياه وآخرته ، ولا بدّ. ولكن تغالطه نفسه.
ثم ذكر من أنواع المغترين من يغترّ بفهم فاسد ، فهمه هو وأضرابه من نصوص القرآن والسّنّة فاتكلوا عليه. قال : كاغترار بعض الجهّال بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) فيقول : كرمه. وقد يقول بعضهم إنه لقن المغتر حجته. وهذا