عطاء ربك وحكمته في كرمه ، تدلك وتوحي إلى نفسك أنك مبعوث في يوم آخر ، لثواب أو عقاب. وإنما الذي يقع منك ، أيها الإنسان ، هو العناد والتكذيب بالدين. أي الجزاء ، أي الانصراف عمدا وعنادا عما يدعو إليه الشعور الأول ، وعن الدليل الذي تقيمه الرسل ، والحجة التي يأتي بها الأنبياء. مع أن الله تعالى لم يترك عملا من أعمالك إلا حفظه وأحصاه عليك حتى يوفيك جزاءه كما قال : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) أي رقباء يحفظون أعمالكم ويحصونها عليكم (كِراماً كاتِبِينَ) أي يكتبون ما تقولون.
(يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) أي من خير أو شر. أي يحصونه عليكم ، فلا يغفلون ولا ينسون.
قال الرازيّ : إن الله تعالى أجرى أموره مع عباده على ما يتعاملون به فيما بينهم. لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى عندهم. ولما كان الأبلغ عندهم في المحاسبة إخراج كتاب بشهود ، خوطبوا بمثل هذا فيما يحاسبون به يوم القيامة. فيخرج لهم كتب منشورة ، ويحضر هناك ملائكة يشهدون عليهم ، كما يشهد عدول السلطان على من يعصيه ويخالف أمره. فيقولون له : أعطاك الملك كذا وكذا. وفعل بك كذا وكذا ، ثم قد خالفته وفعلت كذا وكذا. فكذا ها هنا. والله أعلم بحقيقة ذلك. انتهى.
ولا يخفى أن الحفظة الكرام وعملهم ، من الغيب الذي لا يمكن اكتناهه. فيجب الإيمان به ، كما ورد. مع تفويض كنهه إلى بارئه تعالى. ومن الفضول في العلم التوسع فيما لا يدرك بالنظر وتسويد وجوه الصحف بها. وبالله سبحانه التوفيق.
القول في تأويل قوله تعالى :
(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ(١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١٩)
(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) قال ابن جرير : أي إن الذين برّوا بأداء فرائض الله ، واجتناب معاصيه ، لفي نعيم الجنان ينعمون فيها.
والأبرار جمع (برّ) بفتح الباء وهو المتصف بالبرّ (بكسرها) أي الطاعة. قال الأصفهاني : وقد اشتمل عليه قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ