به ، والبنان الذي يخطّ به ، ومن هيأ ذهنه لقبول هذا التعلم دون سائر الحيوانات ، ومن الذي أنطق لسانه وحرك بنانه ، ومن الذي دعم البنان بالكف ، ودعم الكف بالساعد. فكم لله من آية نحن غافلون عنها في التعليم بالقلم. فقف وقفة في حال الكتابة وتأمل حالك وقد أمسكت القلم وهو جماد ، ووضعته على القرطاس وهو جماد ، فتولد من بينهما أنواع الحكم وأصناف العلوم وفنون المراسلات والخطب والنظم والنثر ، وجوابات المسائل. فمن الذي أجرى فلك المعاني على قلبك ، ورسمها في ذهنك ، ثم أجرى العبارات الدالة عليها على لسانك ، ثم حرك بها بنانك حتى صارت نقشا عجيبا ، معناه أعجب من صورته ، فتقضي به مآربك وتبلغ به حاجة في صدرك ، وترسله إلى الأقطار النائية والجهات المتباعدة ، فيقوم مقامك ، ويترجم عنك. ويتكلم على لسانك ويقوم مقام رسولك ، ويجدي عليك ما لا يجدي من ترسله ، سوى من علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم؟ والتعليم بالقلم يستلزم المراتب الثلاثة : مرتبة الوجود الذهني والوجود اللفظي والوجود الرسمي. فقد دل التعليم بالقلم على أنه سبحانه هو المعطي لهذه المراتب. ودل قوله : (خَلَقَ) على أنه يعطي الوجود العيني. فدلّت هذه الآيات ، مع اختصارها ووجازتها وفصاحتها ، على أن مراتب الوجود بأسرها مسندة إليه تعالى خلقا وتعليما. وذكر خلقين وتعليمين خلقا عاما وخلقا خاصا ، وتعليما خاصّا وتعليما عاما. وذكر من صفاته هاهنا اسم (الأكرم) الذي هو فيه كل خير وكل كمال. فله كل كمالا وصفا ، ومنه كل خير فعلا. فهو (الأكرم) في ذاته وأوصافه وأفعاله. وهذا الخلق والتعليم إنما نشأ من كرمه وبره وإحسانه ، لا من حاجة دعته إلى ذلك ، وهو الغني الحميد.
الثاني : قال الإمام : لا يوجد بيان أبرع ولا دليل أقطع على فضل القراءة والكتابة والعلم بجميع أنواعه. من افتتاح الله كتابه وابتدائه الوحي بهذه الآيات الباهرات. فإن لم يهتد المسلمون بهذا الهدى ، ولم ينبهم النظر فيه إلى النهوض إلى تمزيق تلك الحجب التي حجبت عن أبصارهم نور العلم ، وكسر تلك الأبواب التي غلقها عليهم رؤساؤهم وحبسوهم بها في ظلمات من الجهل وإن لم يسترشدوا بفاتحة هذا الكتاب المبين ، ولم يستضيئوا بهذا الضياء الساطع ، فلا أرشدهم الله أبدا.
الثالث : قال الرازي : في قوله : (بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) إشارة إلى الدلالة العقلية الدالة على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة. وفي قوله : (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) إشارة إلى الأحكام المكتوبة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالسمع. فالأول كأنه إشارة إلى معرفة الربوبية. والثاني إلى النبوّة. وقدم الأول على