الثاني تنبيها على أن معرفة الربوبية غنية عن النبوة ، وأما النبوة فإنها محتاجة إلى معرفة الربوبية. وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :
(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) (٨)
(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) أي حقّا إن الإنسان ليتجاوز حده ويستكبر على ربه ، أن رأى نفسه استغنت. ف (كلا) بمعنى (حقا) لعدم ما يتوجه إليه الردع ظاهرا ، لتأخر نزول هذا عما قبله ـ على ما تقدم في المأثور ـ أو هو ردع لمن كفر بنعمة الله بطغيانه وإن لم يذكر ، لدلالة الكلام عليه. فإن مفتتح السورة إلى هذا المقطع يدل على عظيم منته تعالى على الإنسان فإذا قيل : (كَلَّا) يكون ردعا للإنسان الذي قابل تلك النعم بالكفران والطغيان. أي ما هكذا ينبغي أن يكون الإنسان. ينعم عليه ربه بتسوية خلقه وتعليمه ما لم يكن يعلم ، وإنعامه بما لا كفء له ، ثم يكفر بربه الذي فعل به ذلك ويطغى عليه أن رآه استغنى.
قال الكرخي ، ومذهب أبي حيان أن (كلا) بمعنى (ألا) الاستفتاحية ، وصوبه ابن هشام بكسر همزة (إن) بعدها كما بعد حرف التنبيه. وفي (الكواشي) : يجوز في (كلا) أن تكون تنبيها ، فيقف على ما قبلها. وردعا ، فيقف عليها.
تنبيه :
دلت الآية على قاعدة عظيمة في باب التموّل المحمود ، قررها الحكماء المصلحون. وهو أن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير. قالوا : لأن إفراط الثروة مهلكة للأخلاق الحميدة في الإنسان ، كما نطقت به الآية الكريمة.
قال بعض الحكماء : التحول لأجل الحاجات وبقدرها ، محمود بثلاثة شروط. وإلا كان حرص التمول من أقبح الخصال.
الشرط الأول : أن يكون إحراز المال بوجه مشروع حلال. أي إحرازه من بذل الطبيعة أو بالمعارضة أو في مقابل عمل.
والشرط الثاني : أن لا يكون في التمول تضييق على حاجات الغير ، كاحتكار الضروريات ، أو مزاحمة الصناع والعمال الضعفاء ، أو التغلب على المباحات. مثل امتلاك الأراضي التي جعلها خالقها ممرحا لكافة مخلوقاته. وهي أمهم ترضعهم لبن جهازاتها وتغذيهم بثمراتها وتؤويهم في حضن أجزائها.