الشرط الثالث لجواز التمول : هو أن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير ، وإلا فسدت الأخلاق. ولذلك حرمت الشرائع السماوية كلها ، والحكمة السياسية والأخلاقية والعمرانية أكل الربا. وذلك لقصد حفظ التساوي والتقارب بين الناس في القوة المالية. لأن الربا كسب بدون مقابل ماديّ ، ففيه معنى الغصب. وبدون عمل ، ففيه الألفة على البطالة المفسدة للأخلاق. وبدون تعرض لخسائر طبيعية كالتجارة والزراعة والأملاك. دع أن بالربا تربو الثروات ، فيختل التساوي بين الناس ، كما تقدم بيانه في أواخر سورة البقرة.
وقوله تعالى : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) أي المرجع في الآخرة. قال أبو السعود : تهديد للطاغي وتحذير له من عاقبة الطاغين. والالتفات للتشديد في التهديد ، و (الرجعى) مصدر بمعنى الرجوع. وتقديم الظرف لقصره عليه. أي إن إلى مالك أمرك رجوع الكل بالموت والبعث ، لا إلى غيره ، استقلالا ولا اشتراكا. فسترى حينئذ عاقبة طغيانك. وقد جوز كون الخطاب للرسول صلوات الله عليه ، والتهديد والتحذير بحاله.
القول في تأويل قوله تعالى :
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) (١٤)
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) أي يمنعه عن الصلاة. وعبر بالنهي ، إشارة إلى عدم اقتداره على غير ذلك. قال ابن عطية : لم يختلف المفسرون في أن الناهي أبو جهل والعبد المصلي النبيّ صلىاللهعليهوسلم. كما روي في الصحيحين. ولفظ البخاريّ (١) عن ابن عباس : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه. فبلغ النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : لو فعله لأخذته الملائكة. وفي الآية تقبيح وتشنيع لحال ذاك الكافر ، وتعجيب منها وإيذان بأنها من الشناعة والغرابة بحيث يجب أن يراها كل من يتأتى منه الرؤية ويقضي منها العجب. ولفظ (العبد) وتنكيره ، لتفخيمه عليهالسلام ، واستعظام النهي وتأكيد التعجب منه. وقيل : إنه من إرخاء العنان في الكلام المنصف ، إذ قال (ينهى) ولم يقل (يؤذي) و (عبدا) دون (نبيّا) والرؤية هاهنا بصرية ، وفيما بعدها قلبية. معناه : أخبرني. فإن الرؤية لما كانت سببا للإخبار عن
__________________
(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق ، حديث رقم ٢٠٧٢.