(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي بالله ورسوله محمد ، صلوات الله عليه (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي من بذل النفس في سبيل الجهاد للحق ، وبذل المال في أعمال البر ، مع القيام بفرائض العبادات ، والإخلاص في سائر ضروب المعاملات. لأن إذعانهم الصحيح ، ووجدانهم لذة معرفة الحق ، ملّكت الحق قيادهم. فعملوا الأعمل الصالحة ، قاله الإمام (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أي أفضل الخليقة ، لأنهم بمتابعة الحق عند معرفته بالدليل القائم عليه ، قد حققوا لأنفسهم معنى الإنسانية التي شرفهم الله بها. وبالعمل الصالح ، قد حفظوا نظام الفضيلة الذي جعله الله قوام الوجود الإنسانيّ ، وهدوا غيرهم بحسن الأسوة إلى مثل ما هدوا إليه من الخير والسعادة. فمن يكون أفضل منهم؟ قاله الإمام (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي بساتين إقامة ، لا ظعن فيها ، تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي ماكثين على الدوام ، لا يخرجون عنها ولا يموتون فيها (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) أي بما أطاعوه في الدنيا ، وعملوا لخلوصهم من عقابه في ذلك (وَرَضُوا عَنْهُ) لأنهم بحسن يقينهم يرتاحون إلى امتثال ما يأمر به في الدنيا. فهم راضون عنه. ثم إذا ذهبوا إلى نعم الآخرة ، وجدوا من فضل الله ما لا محل للسخط معه ، فهم راضون عن الله في كل حال. أفاده الإمام.
(ذلِكَ) أي هذا الجزاء الحسن وهذا الرضاء (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي خاف الله في الدنيا. في سره وعلانيته ، فاتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية.
قال الإمام : أراد بهذه الكلمة الرفيعة الاحتياط لدفع سوء الفهم الذي وقع ولا يزال يقع فيه العامة من الناس ، بل الخاصة كذلك. وهو أن مجرد الاعتقاد بالوراثة ، وتقليد الأبوين ، ومعرفة ظواهر بعض الأحكام ، وأداء بعض العبادات ، كحركات الصلاة وإمساك الصوم ، مجرد هذا لا يكفي في نيل ما أعد الله من الجزاء للذين آمنوا وعملوا الصالحات. وإن كانت قلوبهم حشوها الحسد والحقد والكبرياء والرياء. وأفواههم ملؤها الكذب والنميمة والافتراء ، وتهز أعطافهم رياح العجب والخيلاء. وسرائرهم مسكن العبودية والرق للأمراء. بل ولمن دون الأمراء. خالية من أقل مراتب الخشوع والإخلاص لرب الأرض والسماء ـ كلا لا ينالون حسن الجزاء. فإن خشية ربهم لم تحلّ قلوبهم. ولهذا لم تهذب من نفوسهم. ولا يكون ذلك الجزاء إلا لمن خشي ربه ، وأشعر خوفه قلبه. والله أعلم.