إنما جعله الله لسكون الآدميين وراحتهم. لكن شياطين الإنس والجن تفعل فيه من الشر ما لا يمكنها فعله بالنهار. ويتوسلون بالقمر وبدعوته وعبادته. وأبو معشر البلخيّ له (مصحف القمر) يذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه. انتهى كلام ابن تيمية رحمهالله تعالى.
ثم خص تعالى مخلوقات أخر بالاستعاذة من شرها ، لظهور ضررها وعسر الاحتياط منها. فلا بد من الفزع إلى الله والاستنجاد بقدرته الشاملة على دفع شرها ، فقال سبحانه : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) قال ابن جرير : أي ومن شر السواحر اللاتي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها ، وبه قال أهل التأويل. فعن مجاهد : الرقي في عقد الخيط. وعن طاوس : ما من شيء أقرب إلى الشرك من رقية المجانين. ومثله عن قتادة والحسن. وقال الزمخشري : النفاثات النساء أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها ويرقين. والنفث النفخ مع ريق. ولا تأثير لذلك ، اللهم إلا إذا كان ثمّ إطعام شيء ضار أو سقيه أو إشمامه ، أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه ولكن الله عزوجل قد يفعل عند ذلك فعلا على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحق من الحشوية والجهلة من العوام ، فينسبه الحشوية والرعاع إليهن وإلى نفثهن. والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبئون به.
فإن قلت : فما معنى الاستعاذة من شرهن؟ قلت : فيها ثلاثة أوجه :
أحدها ـ أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر ، ومن إثمهن في ذلك.
والثاني ـ أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن وما يخد عنهم به من باطلهن.
الثالث ـ أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهن. انتهى.
وفي الآية تأويل آخر. وهو اختيار أبي مسلم رحمهالله. قال : النفاثات النساء. والعقد عزائم الرجال وآراؤهم ، مستعار من عقد الحبال. والنفث وهو تليين العقدة من الحبل بريق يقذفه عليه ليصير حبله سهلا. فمعنى الآية : إن النساء لأجل كثرة حبهن في قلوب الرجال يتصرفن في الرجال يحولنهم من رأي إلى رأي ومن عزيمة إلى عزيمة. فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن. كقوله : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن : ١٤] ، فكذلك عظم الله كيدهن فقال : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) [يوسف : ٢٨].