منه ، وأوحى إليه عن الله عزوجل ما أمره به ، فعرف عند ذلك عظمة الملك الذي جاءه بالرسالة ، وجلالة قدره ، وعلو مكانته عند خالقه الذي بعثه اليه. انتهى.
أقول : قد وافق القاشانيّ ابن جرير في تأويل الآية ، وعبارته :
(فَاسْتَوى) فاستقام على صورته الذاتية ، والنبيّ بالأفق الأعلى ، لأنه حين كون النبيّ بالأفق المبين لا ينزل على صورته ، لاستحالة تشكل الروح المجرد في مقام القلب ، إلا بصورة تناسب الصور المتمثلة في مقامه ، ولهذا كان يتمثل بصورة دحية الكلبيّ وكان من أحسن الناس صورة ، وأحبهم إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم. إذ لم يتمثل بصورة يمكن انطباعها في الصدر ، لم يفهم القلب كلامه ، ولم ير صورته. وأما صورته الحقيقية التي جبل عليها فلم تظهر للنبيّ صلىاللهعليهوسلم إلا مرتين : عند عروجه إلى الحضرة الأحدية ووصوله بمقام الروح في الترقي ، وعند نزوله عنها ورجوعه إلى المقام عند سدرة المنتهى في التدلي. انتهى.
وكذا المهايميّ وافقهما وعبارته :
(فَاسْتَوى وَهُوَ) أي صاحبكم عند استواء نفسه ، صار (بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) الروحانيّ. انتهى.
وكذا الفخر الرازيّ وعبارته :
المشهور أن (هو) ضمير جبريل ، وتقديره : استوى كما خلقه الله بالأفق الشرقيّ ، فسدّ المشرق لعظمته. والظاهر أن المراد محمد صلىاللهعليهوسلم. معناه : استوى بمكان ، وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر ، لا حقيقة في الحصول في المكان.
فإن قيل : كيف يجوز هذا والله تعالى يقول : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [التكوير : ٢٣] ، إشارة إلى أنه رأى جبريل بالأفق المبين؟ نقول : وفي ذلك الموضع أيضا نقول كما قلنا هاهنا ، أنه صلىاللهعليهوسلم رأى جبريل بالأفق المبين. يقول القائل : رأيت الهلال ، فيقال له : أين رأيته؟ فيقول : فوق السطح. أي : إن الرائي فوق السطح ، لا المرئيّ. و (المبين) هو الفارق ، من (أبان) أي فرق. أي هو بالأفق الفارق بين درجة الإنسان ، ومنزلة الملك ، فإنه صلىاللهعليهوسلم انتهى ، وبلغ الغاية ، وصار نبيّا ، كما صار بعض الأنبياء نبيّا يأتيه الوحي في نومه ، وعلى هيئته ، وهو واصل إلى الأفق الأعلى ، والأفق الفارق بين المنزلتين.