واسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) .. يعود إلى ما تقدم ذكره من إيلاج الليل في النهار ، وتسخير الشمس والقمر. وهو مبتدأ. وقوله (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) خبره. والباء للسببية. أى : ذلك الذي فعلناه سببه ، أن الله ـ تعالى ـ هو الإله الحق ، الذي لا إله سواه ، وأن ما يدعون من دونه من آلهة أخرى هو (الْباطِلُ) الذي لا يصح أن يسمى بهذا الاسم ، لأنه مخلوق زائل متغير ، لا يضر ولا ينفع.
ثم ذكر ـ سبحانه ـ الناس بنعمة أخرى من نعمه التي لا تحصى فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) ...
أى : ولقد علمت ـ أيضا ـ وشاهدت ـ أيها العاقل ـ حال السفن ، وهي تجرى في البحر ، بمشيئة الله وقدرته ، وبلطفه ورحمته وإحسانه. ليطلعكم على بعض آياته الدالة على باهر قدرته ، وسمو حكمته وسابغ نعمته.
(إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي شاهدتموه وانتفعتم به من السفن وغيرها (لَآياتٍ) واضحات على قدرة الله ـ تعالى ـ ورحمته لعباده (لِكُلِّ صَبَّارٍ) أى : لكل إنسان كثير الصبر (شَكُورٍ). أى : كثير الشكر لله ـ تعالى ـ على نعمه ورحمته.
ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أحوال الناس عند ما تحيط بهم المصائب وهم في وسط البحر فقال : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).
وقوله (غَشِيَهُمْ) من الغشاء بمعنى : الغطاء. فيقال : غشى الظلام المكان ، إذا حل به وأصل «الموج» الحركة والازدحام. ومنه قولهم : ماج البحر إذا اضطرب وارتفع ماؤه. والظلل : جمع ظلة ـ كغرفة وغرف ـ ، وهي ما أظل غيره من سحاب أو جبل أو غيرهما.
أى : وإذا ما ركب الناس في السفن ، وأحاطت بهم الأمواج من كل جانب ، وأوشكت أن تعلوهم وتغطيهم ... في تلك الحالة لجئوا إلى الله ـ تعالى ـ وحده ، يدعونه بإخلاص وطاعة وتضرع ، أن ينجيهم مما هم فيه من بلاء ..
(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ) ـ سبحانه ـ بفضله وإحسانه ، وأوصلهم (إِلَى الْبَرِّ) انقسموا إلى قسمين ، أما القسم الأول ، فقد عبر عنه ـ سبحانه ـ بقوله : (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أى : فمنهم من هو مقتصد ، أى : متوسط في عبادته وطاعته ، يعيش حياته بين الخوف والرجاء.
قال ابن كثير : قال ابن زيد : هو المتوسط في العمل ، ثم قال ابن كثير : وهذا الذي قاله ابن زيد هو المراد في قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) فالمقتصد هاهنا هو المتوسط في العمل. ويحتمل أن يكون مرادا هنا ـ أيضا ـ ويكون من باب الإنكار على من شاهد تلك