وأسنده ـ سبحانه ـ إلى ذاته في قوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) لأن كل شيء كائنا ما كان ، لا يكون إلا بقضائه وقدره.
ثم صور ـ سبحانه ـ أحوال هؤلاء الكافرين ، عند ما يقفون للحساب ، تصويرا مرعبا مخيفا فقال : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ).
وجواب «لو» محذوف ، والتقدير : لرأيت شيئا تقشعر من هوله الأبدان.
وقوله : (ناكِسُوا) من النكس ، وهو قلب الشيء على رأسه كالتنكيس .. وفعله من باب نصر ـ والخطاب يصح أن يكون للرسول صلىاللهعليهوسلم أو لكل من يصلح له.
أى : ولو ترى ـ أيها الرسول الكريم ـ حال أولئك المجرمين الذين أنكروا البعث والجزاء ، وهم يقفون أمام خالقهم بذلة وخزي ، لحسابهم على أعمالهم .. لو ترى ذلك لرأيت شيئا ترتعد له الفرائص ، وتهتز منه القلوب.
وقوله : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) حكاية لما يقولونه في هذا الموقف العصيب. أى : يقولون بذلة وندم : يا ربنا نحن الآن نبصر مصيرنا ، ونسمع قولك ونندم على ما كنا فيه من كفر وضلال ، (فَارْجِعْنا) إلى الدنيا ، لكي (نَعْمَلْ) عملا (صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) الآن بأن ما جاءنا به رسولك هو الحق ، وأن البعث حق. وأن الجزاء حق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق.
ولكن هذا الإيقان والاعتراف منهم ، قد جاء في غير أوانه ، ولذا لا يقبله ـ سبحانه ـ منهم ، ولذا عقب ـ سبحانه ـ على ما قالوه بقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها.) ... أى : ولو شئنا أن نؤتى كل نفس رشدها وهداها وتوفيقها إلى الإيمان ، لفعلنا ، لأن إرادتنا نافذة ، وقدرتنا لا يعجزها شيء.
(وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أى : ولكن ثبت وتحقق قولي.
(لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ) أى من الجن وسموا بذلك لاستتارهم عن الأنظار.
ومن (النَّاسِ أَجْمَعِينَ) بسبب فسوقهم عن أمرنا ، وتكذيبهم لرسلنا.
فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن قدرة الله ـ تعالى ـ لا يعجزها شيء ، إلا أن حكمته ـ سبحانه ـ قد اقتضت أن الذين سبق في علمه أنهم يؤثرون الضلالة على الهداية ، لسوء استعدادهم ، يكون مصيرهم إلى النار ، وأما الذين آثروا الهداية على الضلالة لنقاء نفوسهم ، وكمال استعدادهم ، فيكون مصيرهم إلى جنة عرضها السموات والأرض.
كما أن حكمته ـ سبحانه ـ قد اقتضت أن يميز الإنسان على غيره ، بأن يجعل له طبيعة