والتناوش : التناول. يقال : فلان ناش الشيء ينوشه نوشا إذا تناوله. ومنه قولهم : تناوشوا بالرماح ، أى : تناول بعضهم بعضا بها.
أى : لقد قالوا بعد البعث آمنا بهذا الدين ، ومن أين لهم في الآخرة تناول الإيمان والتوبة من الكفر ، وكان ذلك قريبا منهم في الدنيا فضيعوه ، وكيف يظفرون به في الآخرة وهي بعيدة عن دار الدنيا التي هي محل قبول الإيمان.
فالجملة الكريمة تمثيل لحالهم في طلب الخلاص بعد أن فات أوانه ، وأن هذا الطلب في نهاية الاستبعاد كما يدل عليه لفظ (أَنَّى).
قال صاحب الكشاف : والتناوش والتناول أخوان. إلا أن التناوش تناول سهل لشيء قريب ...
وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون ، وهو أن ينفعهم إيمانهم في هذا الوقت ، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا. مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة ـ أى : من مكان بعيد ـ ، كما يتناوله الآخر من قيس ذراع تناولا سهلا لا تعب فيه ...» (١).
وقوله ـ سبحانه ـ (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أى : قالوا آمنا بأن يوم القيامة حق ، والحال أنهم قد كفروا به من قبل في الدنيا ، عند ما دعاهم إلى الإيمان به رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وقوله ـ تعالى ـ : (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) بيان لما كانوا عليه في الدنيا من سفاهة في القول ، وجرأة في النطق بالباطل ، وفيما لا علم لهم به.
والعرب تقول لكل من تكلم فيما لا يعلمه : هو يقذف ويرجم بالغيب ، والجملة الكريمة معطوفة على قوله : (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ).
أى : لقد كفروا بهذا الدين في الدنيا ، وكانوا ينطقون بأقوال لا علم لهم بها ، وبينها وبين الحق والصدق مسافات بعيدة. فقد نسبوا إلى الله ـ تعالى ـ الولد والشريك ، ويقولون في الرسول صلىاللهعليهوسلم إنه ساحر ... ، وفي شأن البعث : إنه لا حقيقة له ، وفي شأن القرآن : إنه أساطير الأولين.
فالمقصود بالآية تقريعهم وتجهيلهم ، على ما كانوا يتفوهون به من كلام ساقط ، بينه وبين الحقيقة مسافات بعيدة.
ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ببيان حرمانهم التام مما يشتهونه فقال : (وَحِيلَ
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٩٣.