ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها ، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ، ليأمنوا على دينهم هناك .. ثم بعد ذلك ، هاجر الرسول صلىاللهعليهوسلم وأصحابه إلى المدينة المنورة ...» (١).
وفي ندائهم بقوله : (يا عِبادِيَ) وفي وصفهم بالإيمان ، تكريم وتشريف لهم ، حيث أضافهم ـ سبحانه ـ إلى ذاته ، ونعتهم بالنعت المحبب إلى قلوبهم.
وقوله : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) تحريض لهم على الهجرة من الأرض التي لا يتمكنون فيها من إقامة شعائر دينهم ، فكأنه ـ سبحانه ـ يقول لهم : ليس هناك ما يجبركم على الإقامة في تلك الأرض التي لا قدرة لكم فيها على إظهار دينكم ، بل اخرجوا منها فإن أرضى واسعة ، ومن خرج من أجل كلمة الله ، رزقه الله ـ تعالى ـ من حيث لا يحتسب.
ومن المفسرين الذين أجادوا في شرح هذا المعنى ، صاحب الكشاف ـ رحمهالله ـ فقد قال : ومعنى الآية : أن المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة في بلد هو فيه ، ولم يتمش له أمر دينه كما يحب ، فليهاجر عنه إلى بلد يقدر أنه فيه أسلم قلبا ، وأصح دينا ، وأكثر عبادة ...
ولعمري إن البقاع تتفاوت في ذلك التفاوت الكثير ، ولقد جربنا وجرب أولونا ، فلم نجد فيما درنا وداروا : أعون على قهر النفس ، وعصيان الشهوة ، وأجمع للقلب المتلفت ، وأضم للهم المنتشر ، وأحث على القناعة ، وأطرد للشيطان ، وأبعد عن الفتن ... من سكنى حرم الله ، وجوار بيت الله ، فلله الحمد على ما سهل من ذلك وقرب ...» (٢).
والفاء في قوله ـ تعالى ـ (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) بمعنى الشرط ، وإياى منصوب بفعل مضمر ، قد استغنى عنه بما يشبهه. أى : فاعبدوا إياى فاعبدون.
والمعنى : إن ضاق بكم مكان ، فإياى فاعبدوا ، لأن أرضى واسعة ، ولن تضيق بكم.
ثم رغبهم بأسلوب آخر في الهجرة من الأرض الظالم أهلها ، بأن بين لهم بأن الموت سيدركهم في كل مكان ، فقال ـ تعالى ـ : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ، ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ).
أى : كل نفس سواء أكانت في وطنها الذي عاشت فيه أم في غيره ، ذائقة لمرارة الموت ، ومتجرعة لكأسه ، ثم إلينا بعد ذلك ترجعون جميعا لنحاسبكم على أعمالكم.
ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعده للمؤمنين الصادقين من جزاء طيب فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً.) ...
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٩٩.
(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٦١.