فلا فرق بين الحالة السابقة واللاحقة في استقلال العقل بقبح التكليف فيهما ؛ لكون المناط في القبح عدم العلم. نعم ، لو اريد إثبات عدم الحكم أمكن إثباته باستصحاب عدمه ، لكنّ المقصود من استصحابه ليس إلّا ترتيب آثار عدم الحكم ، وليس إلّا عدم الاشتغال الذي يحكم به العقل في زمان الشك ، فهو من آثار الشك لا المشكوك.
ومثال الثاني : ما إذا حكم العقل عند اشتباه المكلّف به بوجوب السورة في الصلاة ، ووجوب الصلاة إلى أربع جهات ، ووجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة ، ففعل ما يحتمل معه بقاء التكليف الواقعي وسقوطه ـ كأن صلّى بلا سورة أو إلى بعض الجهات أو اجتنب أحدهما ـ فربّما يتمسّك حينئذ باستصحاب الاشتغال المتيقّن سابقا.
وفيه : أنّ الحكم السابق لم يكن إلّا بحكم العقل الحاكم بوجوب تحصيل اليقين بالبراءة عن التكليف المعلوم في زمان ، وهو بعينه موجود في هذا الزمان. نعم ، الفرق بين هذا الزمان والزمان السابق : حصول العلم بوجود التكليف فعلا بالواقع في السابق وعدم العلم به في هذا الزمان ، وهذا لا يؤثّر في حكم العقل المذكور ؛ إذ يكفي
______________________________________________________
شكّ ـ ولو في الظاهر ـ حتّى يجري فيه الاستصحاب. لكن هذا إنّما يتمّ لو اريد باستصحاب البراءة استصحاب عدم اشتغال الذمّة فعلا ، وعدم وجوب الامتثال كذلك. وإن اريد به استصحاب عدم الحكم من الوجوب والحرمة ، فالقاعدة حينئذ وإن لم تكن حاكمة على استصحاب البراءة بالمعنى المذكور ، لعدم دلالة العقل على هذا الحكم عند الشكّ فيه ، لأنّ غاية ما يدلّ عليه العقل عند الشكّ في التكليف هو عدم وجوب امتثال التكليف المشكوك فيه ، لا عدمه في الواقع ولو ظنّا ، ولكن يرد عليه أنّ المقصود من استصحاب عدم الحكم إثبات عدم وجوب امتثاله في زمان الشكّ ، وهو مع كونه من الآثار العقليّة لعدم الحكم ، فلا يثبت بالاستصحاب أنّ هذا الأثر من آثار مجرّد الشكّ في التكليف لا من آثار عدمه في الواقع ، فبمجرّد الشكّ فيه يرتّب عليه أثره من دون حاجة إلى إثبات عدمه بالاستصحاب.