ولا يخفى أن اختلاف الأخبار في بيان الضابطة والمقادير على ما ذكرناه غير مرة لا يكون قرينة على حملها على الاستحباب بوجه ، بل الصناعة العلمية تقتضي الأخذ بالأقل وحمله على الوجوب إذ لا معارض له في شيء ، ويحمل المقدار الأكثر على الاستحباب فهذا الجمع غير وجيه.
وأُخرى : بأن مقتضى الجمع العرفي بين الطائفتين هو حمل أخبار الطهارة على طبيعيها في مقابل النجاسة ، وحمل أخبار النجاسة على مرتبة ضعيفة منها لا تمنع عن شربه ولا عن الوضوء والغسل به ، ولا ترتفع بغير النزح ، ولا نحملها على مرتبة قوية من النجاسة كي تمنع عن استعمال الماء مطلقاً ، وتقع المعارضة بين الطائفتين.
وفيه أولاً : أن الجمع على هذا الوجه ليس بجمع عرفي يفهمه أهل اللسان إذا عرضنا عليهم المتعارضين ولا يكادون يفهمون من الطهارة طبيعيها ولا من النجاسة مرتبة ضعيفة منها.
وثانياً : أن الجمع بذلك جمع غير معقول ، لاستحالة اجتماع الطهارة مع النجاسة ولو بمرتبة ضعيفة منها لأنهما ضدّان واجتماعهما مستحيل ، وهل يجتمع البياض مع مرتبة ضعيفة من السواد.
فالصحيح في المقام أن يقال : إن الطائفتين من أظهر أنحاء المتعارضين فان كل واحدة منهما تنفي ما تثبته الأُخرى فلا محيص فيهما من الترجيح بمرجحات باب المعارضة المقررة في بحث التعادل والترجيح فان قلنا بدلالة الآية المباركة ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (١) وقوله تعالى ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (٢) على طهارة جميع أقسام المياه فالترجيح مع الطائفة الدالّة على طهارة ماء البئر لأنها موافقة للكتاب والطائفة الأُخرى مخالفة له ، وموافقة الكتاب أوّل مرجح في باب المعارضة. وأمّا إذا لم نقل بذلك وناقشنا في دلالتهما على الطهارة بالمعنى المصطلح
__________________
(١) الفرقان ٢٥ : ٤٨.
(٢) الأنفال ٨ : ١١.