عليه كما قدّمناه سابقاً (١) فلا محالة تصل النوبة إلى المرجح الثاني وهو مخالفة العامة. وقد مرّ (٢) أن المذاهب الأربعة مطبقة على انفعال ماء البئر بالملاقاة وكذا غيرها من المذاهب على ما وقفنا عليه من أقوالهم ، فالترجيح أيضاً مع ما دلّ على طهارة البئر لأنها مخالفة للعامة فلا مناص حينئذٍ من حمل أخبار النجاسة على التقية.
هذا على أن في الأخبار المذكورة قرينة على أنهم عليهالسلام لم يكونوا بصدد بيان الحكم الواقعي وإنما كانوا في مقام الإجمال والتقية ، وهذا كما في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع حيث سأل عما يطهّر البئر فأجاب عليهالسلام بقوله : « ينزح دلاء منها » (٣) ، فان الدلاء جمع يصدق على الثلاثة لا محالة. ولا قائل من الفريقين بمطهرية الدلاء الثلاثة للبئر والزائد عنها غير مبين في كلامه عليهالسلام. فمن ذلك يظهر أنه عليهالسلام لم يكن في مقام بيان الحكم الواقعي لأن الإجمال غير مناسب لمقام الإمامة ولمقام البيان ، بل ولا يناسب لمقام الإفتاء أيضاً ، فإن فقيهاً إذا سئل عن الغسل الذي يطهر به الثوب لم يناسبه أن يجيب بأن الثوب إذا غسل يطهر ، مع أنه يعتبر التعدّد في غسله ، فإنّه مجمل وهو في مقام الإفتاء وبصدد البيان.
وكيف كان فهذه الأخبار محمولة على التقية. وبهذا يشكل الإفتاء باستحباب النزح أيضاً ، إذ بعد ما سقطت أخبار وجوب النزح عن الاعتبار ، وحملناها على التقية لم يبق هناك شيء يدل على الاستحباب. وبعبارة اخرى الأخبار الآمرة بالنزح ظاهرة في الإرشاد إلى نجاسة البئر بالملاقاة ، وقد رفعنا اليد عن ظاهرها بما دلّ على طهارة البئر وعدم انفعالها بشيء ، وعليه فحمل تلك الأخبار على خلاف ظاهرها من الاستحباب أو الوجوب التعبديين مع بقاء البئر على طهارتها يتوقف على دليل. نعم ، لو كانت ظاهرة في وجوب النزح تعبّداً لحملناها على الاستحباب بعد رفع اليد عن ظواهرها بما دلّ على طهارة البئر ، وعدم وجوب النزح تعبّداً.
__________________
(١) في ص ٩.
(٢) قد قدّمنا تفاصيل أقوال العامة في أوائل البحث ، فراجع ص ٢٣٥.
(٣) الوسائل ١ : ١٧٦ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٢١.