ودعوى : أنه لا يفيد غير الظن من غرائب الكلام لأن اعتباره غير منوط بإفادة الظن فتثبت به النجاسة وغيرها من الأحكام ، فان المدار في ثبوت حكم بشيء على العلم بحجية ذلك الشيء لا على العلم بالحكم.
وأمّا الروايتان المتقدِّمتان فلا دلالة لهما على ما يرومه ، لأن غاية ما يستفاد منهما أن العلم بالميتة قد أُخذ في موضوع الحكم بالنجاسة وحرمة الأكل وغيرهما من الأحكام ، فحالها حال سائر المحرّمات التي أُخذ العلم في موضوعها كما في قوله عليهالسلام « كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام » (١) إلاّ أنه علم طريقي قد أُخذ في موضوع الأحكام المتقدمة منجزاً للواقع لا موضوعاً لها ، نظير أخذ التبين في موضوع وجوب الصوم في قوله عزّ من قائل ( كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) (٢). وقد أسلفنا في محله أن الاستصحاب بأدلة اعتباره صالح لأن يقوم مقام العلم الطريقي كما تقوم مقامه البينة والأمارات (٣) ولو لا ذلك لم يمكن إثبات شيء من المحرمات الشرعية بالاستصحاب ولا بالبينة لفرض أخذ العلم بها في موضوعها.
ويمكن أن يقال : إن الروايتين ولا سيما صحيحة الحلبي إنما وردتا في مورد وجود الأمارة على التذكية ولا إشكال معه في الحكم بالطهارة والتذكية حتى يعلم خلافها وأين هذا من اعتبار العلم في موضوع الحرمة والنجاسة وغيرهما من أحكام الميتة.
فالمتحصل أنه لا إشكال في جريان استصحاب عدم التذكية على تقدير كون الأحكام المتقدمة مترتبة على عنوان غير المذكى عند الشك في التذكية. إذا عرفت ذلك فنقول :
إن حرمة الأكل وعدم جواز الصلاة حكمان مترتبان على عنوان غير المذكى وذلك لقوله تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ... وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (٤).
__________________
(١) بيّنا مواضعه في ص ٢٥٩ ، فليراجع.
(٢) البقرة ٢ : ١٨٧.
(٣) مصباح الأُصول ٢ : ٣٨.
(٤) المائدة ٥ : ٣.