حيث إنّه حين الحكم بنجاسته يحكم بطهارته أيضاً لاتصاله بالمادّة ، وما هذا شأنه كيف يصدر عن الحكيم. وبهذه القرينة القطعية تدلّنا الصحيحة على اعتصام ماء البئر مطلقاً كثيراً كان أم قليلاً وبعد ذلك نتعدّى منها إلى كل ما له مادّة لعموم تعليلها كما مرّ ، هذا كلّه في المقام الأول.
وأمّا الكلام في المقام الثاني : فملخصه أن ما يحتمل أن يكون معارضاً لأدلّة اعتصام الجاري ، هو مفهوم قوله عليهالسلام : « الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجّسه شيء » (١) ، فإنّه دلّ بمفهومه على أن الماء إذا لم يبلغ قدر كر ينفعل بالملاقاة مطلقاً سواء أكان جارياً أم لم يكن ، وقوله عليهالسلام : كر (٢) في جواب السؤال عن الماء الذي لا ينجسه شيء من النجاسات ، لأنّه صريح في أنّ غير الكر من المياه ينفعل بملاقاة البول وأمثاله من النجاسات ولو كان جارياً ، ولكن لا تعارض بينهما في الحقيقة وذلك لأن الوجهين المتقدمين في تقريب الاستدلال بالصحيحة يجعلان الصحيحة كالنص فتصير قرينة وبياناً بالإضافة إلى الروايتين المذكورتين ، حيث إنّهما حصرا علّة الاعتصام في الكر ، والصحيحة دلّت على عدم انحصارها فيه وبيّنت أن هناك علّة أُخرى للاعتصام ، وهي الاستمداد من المادّة. وبهذا تتقدم الصحيحة على الروايتين ، ولا يبقى بينهما معارضة بالعموم من وجه حتى يحكم بتساقطهما والرجوع إلى عموم الفوق كالنبويّات التي بيّنّا ضعف سندها ، أو إلى قاعدة الطهارة أو يحكم بعدم تساقطهما والرجوع إلى المرجحات السندية على تفصيل في ذلك موكول إلى محلّه.
ثم لو تنزلنا وبنينا على أنّهما متعارضان ، بأن قطعنا النظر عن ذيل الصحيحة واقتصرنا على صدرها وهو قوله عليهالسلام : « ماء البئر واسع لا يفسده شيء » يمكننا الاستدلال أيضاً بصدرها على طهارة ماء البئر على وجه الإطلاق ، فإنّ النسبة بينه وبين ما دلّ على انفعال القليل عموم من وجه ، لأن أدلّة انفعال القليل تقتضي نجاسة القليل بالملاقاة جارياً كان أم غير جار ، وصدر الصحيحة يقتضي عدم نجاسة
__________________
(١) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ ، ٢ ، ٥ ، وغيرها.
(٢) وهي صحيحة إسماعيل بن جابر المروية في الوسائل ١ : ١٥٩ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٧.