فإن قيل : إنه قد استفاضت الأخبار بمعذورية الجاهل بالحكم ، وإن كان ذلك خلاف المشهور. وحينئذ ، فما لم يرد فيه نصّ كيف يجب التوقف فيه والاحتياط ، فإنه متى كان الجاهل معذورا فيما ورد فيه النصّ ؛ لعدم وقوفه عليه ، فبطريق الأولى فيما لم يرد فيه نص؟
قلنا : نعم ، الأمر كذلك ، لكن قد قدّمنا في الدرة (١) الموضوعة في حكم الجاهل تفصيلا حاصله اختصاص ذلك بالجاهل الساذج الغير المتصوّر للحكم بالكلية ، وهو الغافل بالمرّة ، دون المتصور للحكم ولو بالشك فيه. وقد أشرنا في طيّ الكلام السابق في هذا المقام إلى أن التوقّف والعمل بالاحتياط هنا إنما يتوجه إلى من علم أنه لا واقعة من (٢) الأحكام الشرعية إلّا وقد ورد فيها خطاب شرعي وحكم الهي ، وأنه مع العلم به يجب التوقف والاحتياط ، وأن الامور ثلاثة : «حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك» ، وأنه منهي عن القول بغير علم ، كما هو مضمون ما سردناه من الأخبار.
وحينئذ ، فالعالم بجميع ذلك متى ورد عليه جزئي من القضايا لم يقف فيه (٣) على نص ، وجب عليه الوقوف والاحتياط. وأما من لم يقف على ذلك ، فهو معذور عندنا ؛ لكونه جاهلا للحكم جهلا ساذجا غير متصور له بالكلية ، لا إجمالا ولا تفصيلا ، كما قدّمنا بيانه هذا.
ولا يخفى عليك أن المستفاد من الأخبار المتقدمة أنه كما تعبّد الله تعالى عبادة في الحلال والحرام البيّنين ، بالأمر والنهي ؛ بإباحة الأول وتحريم الثاني ، تعبّدهم أيضا في الشبهات بالتورع عنها والاحتياط فيها ، مع عدم إمكان الرجوع إلى اولي الأمر ، صلوات الله عليهم. ومن المحتمل أن وجه الحكمة في ذلك هو
__________________
(١) انظر الدرر ١ : ٧٧ ـ ١١٩ / الدرّة : ٢.
(٢) من «ح» ، وفي «ق» : عن.
(٣) في «ح» : عليه.