قد لا يواتيه الشعر وهو في أشد ما يکون من يقظته الفکرية ورغبته الملحة في انشائه. قال الفرزدق : «قد يأتي على الحين وقلع ضرس عندي اهون من قول بيت شعر» (١).
وبالعکس قد يفيض الشعر ويتدفق على لسان الشاعر من غير سابق تهيؤ فکري والشعراء وحدهم يعرفون مدي صحة هذه الحقيقة من أنفسهم.
واحسب انه من أجل هذا زعم العرب أو شعراؤهم خاصة دن لکل شاعر شيطانا أو جنيا يلقي عليه الشعر. والغريب أن بعضهم تخيله شخصا يمثل له وأسماه باسم مخصوص. وکل ذلک لانهم رأوا من انفسهم ان الشعر يواتيهم على الاکثر من وراء منطقة الشعور وعجزوا عن تفسيره بغير الشيطان والجن.
وعلى کل حال فان قوة الشعر اذا کانت موجودة في نفس الفرد لا تخرج کما تقدم من حد القوة الى حد الفعلية اعتباطا من دون سابق تمرين وممارسة للشعر بحفظ وتفهم ومحاولة نظمه مرة بعد أخري. وقد أوصي بعض الشعراء ناشئا ليتعلم الشعر ان يحفظ قسما کبيرا من المختار منه ثم يتناسره مدة طويلة ثم يخرج الى الحدائق الغناء ليستلهمه وکذلک فعل ذلک الناشيء فصار شاعرا کبيرا.
ان الامر بحفظه وتناسيه فلسفة عميقة في العقل الباطن توصل اليها ذلک الشاعر بفطرته وتجربته : ان هذا هو شحن القوة للعقل الباطن لتهيئته لالهام الشعور في ساعة الانشراح والانطلاق التي هي إحدي ساعات تيقظ العقل الباطن وانفتاح المجري النفسي بين منطقتي اللاشعور والشعور أو بالاصح احدي ساعات اتحاد المنطقتين. بل هي من أفضل تلک الساعات. وما أعز انفتاح هذا المجري على الانسان الا على من خلق ملهما فيؤاتيه بلا اختيار.
__________________
(١) راجع العقد الفريد الجزء ٣ ص ٤٢١.