التضحية بالطفل البكر عرفا جاريا لدى الكنعانيين في العصر العتيق ، وفي حفريات «جازر» دليل قاطع في هذا الصدد ، فقد وجدت بها عظام أطفال في حالة بلاء بين بين ، مودعة في أسس المنازل ، وقد احتفظ الفينيقيون بهذه العادة إلى عصور قريبة ، حتى روى «فيلون» أن من عادات القوم في حالات الأخطار العامة ، أن يضحوا بأعز أبنائهم لإبعاد الكوارث عن أنفسهم (١) ، وطبقا لرواية التوراة ، فإن المؤابيين إنما كانوا يفعلون كذلك ، وقد ضحى ملك مؤاب (ميشع) بابنه البكر لإلهه شمس ، لينقذه من قوات إسرائيل ويهوذا التي أحاطت به (٢). هذا وقد تبيّن من مخلفات المدافن من «أم التار» في «أبو ظبي» أنها تضم العديد من الهياكل العظمية المتكدسة في المدفن المشترك ، ويدل وجود الهياكل العظيمة خارج الجدران الخارجية على ظاهرة التضحية البشرية التي تواكب مراسم الدفن ، حيث توضع جثث الأشخاص الذين يضحى بهم خارج المبنى الذي يضم جثة المتوفي (٣).
وهنا ـ فيما يبدو لي ـ تظهر أهمية قصة الذبيح إسماعيل عليهالسلام ، في التاريخ الإنساني ، إذ كتبت عليه ضريبة الفداء ، وهي في مفترق الطرق بين الهمجية التي كانت لا تتورع عن الذبائح البشرية ، وبين الإنسانية المهذبة التي لا تأبى الفداء بالحياة ، ولكنها تتورع عن ذبح الإنسان (٤) ، ولما كان الأنبياء هم الأسوة الحسنة التي يحتذى حذوها كافة الناس وخاصتهم ، فإن الله جلت قدرته أراد أن يجعل من خليله قدوة حسنة ، ومثلا أعلى ، لأرفع صور الإيمان وأجلها في تاريخ الإنسانية ، وفي الوقت
__________________
(١) ج. كونتنو : الحضارة الفينيقية ص ١٤٥
(٢) ملوك ثان ٣ : ٢٧
(٣) G.Bibby ,Looking for Delmun ,London ,٠٧٩١ ,P.٢١٢ وكذاK.Thorvidsen ,Kumal ,٢٦٩١ ,PP.٧١٢ ـ ٨١٢
(٤) عباس العقاد : الإسلام دعوة عالمية ص ٢١٨ ـ ٢١٩