وهكذا تمر الأيام بالرسول الكريم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وهو على هذا العهد ، يأتيه الوحي نجما بعد نجم ، وكتاب الوحي يسجلونه آية بعد آية (١) ، حتى إذا ما كمل التنزيل ، وانتقل الرسول الأعظم ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى الرفيق الأعلى كان القرآن كله مسجلا في صحف ـ وإن كانت مفرقة لم يكونوا قد جمعوها فيما بين الدفتين ، ولم يلزموا القراء توالي سورها (٢) ـ وفي صدور الحفاظ من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ هؤلاء الصفوة من أمة محمد النبي المختار ، الذين كانوا يتسابقون إلى تلاوة القرآن ومدارسته ، ويبذلون قصارى جهدهم لاستظهاره وحفظه ، ويعلمونه أولادهم وزوجاتهم في البيوت ، حتى كان الذي يمر ببيوت الأنصار في غسق الدجى ، لا يسمع فيها إلا صوت القرآن يتلى ، وحتى كان المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يمر على بعض دور الصحابة ، فيقف عند بعضها يستمع القرآن في ظلام الليل ، وحتى روي عنه (صلىاللهعليهوسلم) أنه قال : «إني لأعرف أصوات رفقة الاشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل ، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالليل بالقرآن ، وإن كنت لم أر منازلهم بالنهار» [رواه الشيخان].
ومن هنا كان حفاظ القرآن الكريم في حياة الرسول (صلىاللهعليهوسلم) لا يحصون ، وتلك ـ ويم الله ـ عناية من الرحمن خاصة بهذا القرآن
__________________
(١) لعل أشهر كتاب الوحي ـ والذين يقال أن عددهم بلغ تسعة وعشرين كاتبا ـ الخلفاء الاربعة وأبي بن كعب وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة والزبير بن العوام وشرحبيل وعبد الله بن رواحه (أنظر فتح الباري ٩ / ١٨) وكانوا يضعون ما يكتبونه في بيت النبي عليه الصلاة والسلام ، ثم يكتبون لأنفسهم منه صورا أخرى يحفظونها لديهم (البرهان ١ / ٢٣٨ ، الاتقان ١ / ٥٨ ، محمد عبد الله دراز : المرجع السابق ص ٣٤ ـ ٣٥ ، من روائع القرآن ص ٤٩ ـ ٥١)
(٢) الاتقان في علوم القرآن ١ / ٥٩ ، البرهان في علوم القرآن ص ٢٣٥ ، مقدمتان في علوم القرآن ص ٣٢ ، مقدمة كتاب المصاحف لآرثر جفري ص ٥ ، محمد حسين هيكل : حياة محمد ص ٤٩ ـ ٥٠