سليم ، وإن قبلت في نهاية الأمر أن تعود إلى عرشها ، وهنا أمرت فسد ما بين الجبلين بمسناة بالصخر والقار وحبست الماء من وراء السد ، وجعلت له أبوابا بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة منها اثنا عشر مخرجا على عدة أنهارهم ، وكان الماء يخرج لهم بالسوية إلى أن كان من شأنها مع سليمان عليهالسلام.
غير أن أصحابنا المفسرين والاخباريين لم يتفقوا على الرواية الآنفة الذكر ، من أن بلقيس (١) هي التي بنت سد مأرب ، فذهب فريق منهم إلى أن ذلك إنما كان «سبأ (٢)» نفسه ، وإن لم يكمل السد فأتمه ولده حمير ،
__________________
(١) أنظر عنها مقالنا «العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة» ـ مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية ـ العدد السادس ـ ١٩٧٦ م وكذا كتابنا «بلاد العرب»
(٢) تذهب الروايات العربية إلى أن «سبأ» هذا ، إنما هو عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وأن سبب تسميته بسبإ أنه أول من سبى من العرب ، وزعم البعض أنه كان مسلما وله شعر بشر به المصطفى (صلىاللهعليهوسلم) ، وأنه حكم ٤٨٤ عاما ـ ثم خلفه ولده حمير ، وأنه أنشأ مدينة سبأ وسد مأرب في اليمن ، وعين شمس في مصر ، حيث خلفه عليها ولده بابليون (الطبري ١ / ٢١١ ، ابو الفداء ١ / ١٠٠ ، ابن الاثير ١ / ٢٣٠ ، مروج الذهب ٢ / ٤٥ ـ ٤٨ ، البلاذري : أنساب الاشارف ص ٤ ، كتاب التيجان ص ٤٨ ـ ٥٠ ، ابن كثير ٢ / ١٥٨ ـ ١٥٩ ، تاج العروس ١٠ / ١٦٩ ابن خلدون ٢ / ٤٧ ، منتخبات ص ٤٧ ، المحبر ص ٣٦٤ ، الأخبار الطوال ص ١٠ ، المعارف ص ٤٦ ، ٢٧١ ، بلوغ الأرب ١ / ٢٠٧ ، الاشتقاق ١ / ١٥٥ ، ٢ / ٣٦١ ـ ٢٦٣ ، اليعقوبي ١ / ١٩٥ ، روح المعاني ٢٢ / ١٢٤) وأما أن سبأ هو عبد شمس بن يشجب ... الخ فهناك كتابة حفرت على نحاس في مجموعة (P.Lamare) جاء فيها هذا الاسم ، وأما ان سبب التسمية كثرة السبي ، حتى وصلت غزواته إلى بابل وأرمينية في آسيا ، ومصر والمغرب في إفريقيا ، فليس هذا إلا في خيال ابن منبه ، ومن دعوا بدعوته ، وأن هذه البلاد التي ذكرت آنفا ، فلا تعرف شيئا عن سبأ هذا ـ وان عرفت السبئيين على أنهم من تجار البخور واللبان وغيرهما من مستلزمات المعابد القديمة ، وليس غزاة يحتلون البلاد ويبنون المدن ، وأما أن الرجل قد بنى مدينة سبأ وسد مأرب ، فيكذبه أن التاريخ لا يعرف بلدا بهذا الاسم ، وأما بنائه لسد مأرب فتلك دعوى لا تعرف نصيبا من صواب ـ كما سوف نعرف ـ وأما بنائه لعين شمس ، فالواقع أن المدينة قد بنيت قبل ظهور سبأ هذا ـ إن كان هناك ملكا بهذا الإسم ـ بمئات من السنين ، بل بآلاف من السنين ،