وجد هذا الوسيط ممثلا في مدينة مكة (١) ، التي حظيت منذ منتصف القرن الخامس الميلادي بمكانة سامية بين عرب الشمال ، فضلا عن طرفي الصراع الدولي (الفرس والروم) في تلك الفترة ، وساعد على ذلك رغبة الفريقين المتنازعين في وجود مثل هذا الوسيط المحايد من ناحية ، وبعد مكة وصعوبة الوصول إليها من ناحية أخرى.
غير أن الحبشة ـ بتأثير من الروم على ما يبدو ـ لم تكن ترى هذا الرأي ، إذ كانت حريصة على ان تحتكر هذا المصدر الاقتصادي الهام لنفسها ، ومن ثم كانت حملة أبرهة للاستيلاء على مكة (٢) ، وبالتالي السيطرة على التجارة القادمة من الجنوب إلى الشمال ، عن طريق مكة ، ولعل ذلك قد حدث بعد فشل مشروع تحويل العرب من الكعبة إلى القليس ، وما كان يرجى من وراء ذلك من مكاسب مادية ودينية وأدبية.
وأما الأسباب السياسية ، فلعل أهمها أن الاستيلاء على مكة ، إنما يعني إزاحة عقبة كئود ، كانت تقف حائلا بين اتصال الأحباش في اليمن بحلفائهم البيزنطيين في الشمال ، وربما كانت بيزنطة تقف بكل قوتها وراء هذا المشروع الخطير ، بل أن هناك ما يشير إلى أن ذلك إنما كان كذلك ، فنجاح هذا المشروع يجعل العربية الغربية كلها تحت نفوذ النصرانية ، كما أن أبرهة يستطيع ، بعد فتح مكة ، أن يزحف نحو الشرق ، ومن ثم يمكنه إلى حد كبير أن يقضي على النفوذ الفارسي في العربية الشرقية ، وبالتالي طرد الفرس من بلاد العرب وجعل النفوذ الأجنبي فيها مقصورا على النفوذ الحبشي الرومي.
__________________
(١) احمد إبراهيم الشريف : مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول ، القاهرة ١٩٦٥ ص ١٥٤ S. A. Huzayyin, Arabia and the Far East, Cairo, ٢٤٩١, P. P. ٢٤١ ـ ٣٤١
(٢) احمد إبراهيم الشريف : المرجع السابق ص ١٥٥ ، جواد علي ٣ / ٥١٨.