وفي آيات أخرى من القرآن الكريم أكّد هذا المعنى بعبارات شبيهة بالعبارة المذكورة في الآية الحاضرة ، فعند ما يشنع على اليهود ويذكر أعمالهم القبيحة يقول : (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) (١) ويقول في الآية (١٨٨) من سورة البقرة (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) كمقدمة للنهي عن جر الناس إلى المحاكم وأكل أموالهم بحجج واهية غير منطقية.
وعلى هذا الأساس يندرج تحت هذا العنوان الكلي كل لون من ألوان العدوان، والغش، وجميع المعاملات الرّبوية ، والمعاملات المجهولة الخصوصيات تماما ، وتعاطي البضائع التي لا فائدة فيها بحكم العقلاء ، والتجارة بأدوات اللهو والفساد والمعصية وما شاكل ذلك.
وتفسير بعض الروايات كلمة «الباطل» بالقمار والرّبا وما شابه ذلك إنّما هو في الحقيقة من باب ذكر المصاديق الواضحة لهذا المفهوم ، وليس من باب الحصر والقصر.
ولعلّنا لا نحتاج إلى التذكير بأنّ التعبير بـ «الأكل» كناية عن كل تصرف ، سواء تمّ بصورة الأكل المتعارف أو اللبس ، أو السكنى أو غير ذلك ، تعبير رائج في اللغة العربية وغير العربية ، غير غريب على الاستعمال.
ثمّ إنّ الله سبحانه يقول معقبا على العبارات السابقة : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ).
وهذه العبارة استثناء من القانون الكلي ، وهو بحسب الاصطلاح «استثناء منقطع»(٢) وهو يعني إن ما جاء في هذا العبارة لم يكن مشمولا للحكم السابق من الأساس،بل قد ذكر تأكيدا وتذكيرا ، فهو في حدّ ذاته قانون كلي ، وضابطة عامّة
__________________
(١) النساء ، ١٦١.
(٢) الاستثناء المنقطع يأتي ـ غالبا ـ لتأكيد عمومية الحكم العام ، وهو أمر صادق في المقام ، هذا مضافا إلى أنه يكشف عن هذه الحقيقة ، وهي أن تحريم التصرفات الباطلة لا يقفل عليكم أبواب الرزق والحياة ، بل في إمكانكم أن تحققوا أهدافكم عن طريق التجارة المشروعة والكسب المباح شرعا.