إن من الترك من يستمطر في السفارة وغيرها فيمطر ويحدث ما شاء من برد وثلج ونحو ذلك ، فكنا بين منكر ومصدق ، حتى رأيت داود بن منصور بن أبي علي الباذغيسي ، وكان رجلا صالحا قد تولى خراسان ، فحمد أمره بها ، وقد خلا بابن ملك الترك الغزية ، وكان يقال له بالقيق بن حيّويه ، فقال له : بلغنا عن الترك أنهم يجلبون المطر والثلج متى شاءوا فما عندك في ذلك؟ فقال : الترك أحقر وأذلّ عند الله من أن يستطيعوا هذا الأمر ، والذي بلغك حق ولكن له خبر أحدثك به : كان بعض أجدادي راغم أباه ، وكان الملك في ذلك العصر قد شذّ عنه واتخذ لنفسه أصحابا من مواليه وغلمانه وغيرهم ممن يجب الصعلكة ، وتوجه نحو شرق البلاد يغير على الناس ويصيد ما يظهر له ولأصحابه ، فانتهى به المسير إلى بلد ذكر أهله أن لا منفذ لأحد وراءه ، وهناك جبل ، قالوا : إنّ الشمس تطلع من وراء هذا الجبل ، وهي قريبة من الأرض جدّا ، فلا تقع على شيء إلا أحرقته ، قال : أو ليس هناك ساكن ولا وحش؟ قالوا : بلى ، قال : فكيف يتهيأ لهم المقام على ما ذكرتم؟ قالوا : أما الناس فلهم أسراب تحت الأرض وغيران في الجبال ، فإذا طلعت الشمس بادروا إليها واستكنوا فيها حتى ترتفع الشمس عنهم فيخرجون ، وأما الوحوش فإنها تلتقط حصّى هناك قد ألهمت معرفته ، فكلّ وحشيّة تأخذ حصاة بفيها وترفع رأسها إلى السماء فتظلّلها وتبرز عند ذلك غمامة تحجب بينها وبين الشمس ، قال : فقصد جدي تلك الناحية فوجد الأمر على ما بلغه ، فحمل هو وأصحابه على الوحوش حتى عرف الحصى والتقطه ، فحملوا منه ما قدروا عليه إلى بلادهم ، فهو معهم إلى الآن ، فإذا أرادوا المطر حرّكوا منه شيئا يسيرا فينشأ الغيم فيوافي المطر ، وإن أرادوا الثلج والبرد زادوا في تحريكه فيوافيهم الثلج والبرد ، فهذه قصتهم ، وليس ذلك من حيلة عندهم ، ولكنه من قدرة الله تعالى.
قال أبو العباس : وسمعت إسماعيل بن أحمد الساماني أمير خراسان يقول : غزوت الترك في بعض السنين في نحو عشرين ألف رجل من المسلمين ، فخرج إليّ منهم ستون ألفا في السلاح الشاك ، فواقعتهم أياما ، فإني ليوما في قتالهم إذ اجتمع إليّ خلق من غلمان الأتراك وغيرهم من الأتراك المستأمنة فقالوا لي : إن لنا في عسكر الكفرة قرابات وإخوانا ، وقد أنذرونا بموافاة فلان ، قال : وكان هذا الذي ذكروه كالكاهن عندهم ، وكانوا يزعمون أنه ينشئ سحاب البرد والثلج وغير ذلك ، فيقصد بها من يريد هلاكه ، وقالوا : قد عزم أن يمطر على عسكرنا بردا عظاما لا يصيب البرد إنسانا إلا قتله ، قال : فانتهرتهم وقلت لهم : ما خرج الكفر من قلوبكم بعد ، وهل يستطيع هذا أحد من البشر؟ قالوا : قد أنذرناك وأنت أعلم غدا عند ارتفاع النهار ؛ فلما كان من الغد وارتفاع النهار نشأت سحابة عظيمة هائلة من رأس جبل كنت مستندا بعسكري إليه ثم لم تزل تنتشر وتزيد حتى أظلّت عسكري كله ، فهالني سوادها وما رأيت منها وما سمعت فيها من الأصوات الهائلة وعلمت أنها فتنة ، فنزلت عن دابّتي وصلّيت ركعتين وأهل العسكر يموج بعضهم في بعض وهم لا يشكّون في البلاء ، فدعوت الله وعفرت وجهي في التراب وقلت : اللهم أغثنا فإن عبادك يضعفون عن محنتك وأنا أعلم أن القدرة لك وأنه لا يملك الضرّ والنّفع الا أنت ، اللهم إن هذه السحابة إن أمطرت علينا كانت فتنة للمسلمين وسطوة للمشركين ، فاصرف عنا شرها