غضّا رويّا يفوق ما يسقى بالمياه والسيح في جميع البلاد ، وهذا لم أره فيما طوّفت من البلاد في غير أرضها ، ومن ذلك أن مسافة ما بيد مالكها في أيامنا هذه ، وهو الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر يوسف بن أيوب ومدبّر دولته والقائم بجميع أموره شهاب الدين طغرل ، وهو خادم روميّ زاهد متعبّد ، حسن العدل والرأفة برعيته ، لا نظير له في أيامه في جميع أقطار الأرض ، حاشا الإمام المستنصر بالله أبي جعفر المنصور بن الظاهر ابن الناصر لدين الله ، فإن كرمه وعدله ورأفته قد تجاوزت الحدّ فالله بكرمه يرحم رعيتهما بطول بقائمها ، من المشرق إلى المغرب مسيرة خمسة أيام ، ومن الجنوب إلى الشمال مثل ذلك ، وفيها ثمانمائة ونيف وعشرون قرية ملك لأهلها ليس للسلطان فيها إلا مقاطعات يسيرة ، ونحو مائتين ونيف قرية مشتركة بين الرعية والسلطان ، وقفني الوزير الصاحب القاضي الأكرم جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم الشيباني القفطي ، أدام الله تعالى أيامه وختم بالصالحات أعماله ، وهو يومئذ وزير صاحبها ومدبر دواوينها ، على الجريدة بذلك وأسماء القرى وأسماء ملّاكها ، وهي بعد ذلك تقوم برزق خمسة آلاف فارس مراخي الغلة موسع عليهم ، قال لي الوزير الأكرم ، أدام الله تعالى علوّه : لو لم يقع إسراف في خواصّ الأمراء وجماعة من أعيان المفاريد لقامت بأرزاق سبعة آلاف فارس لأن فيها من الطواشية المفاريد ما يزيد على ألف فارس يحصل للواحد منهم في العام من عشرة آلاف درهم إلى خمسة عشر ألف درهم ، ويمكن أن يستخدم من فضلات خواصّ الأمراء ألف فارس ، وفي أعمالها إحدى وعشرون قلعة ، يقام بذخائرها وأرزاق مستحفظيها خارجا عن جميع ما ذكرناه ، وهو جملة أخرى كثيرة ، ثم يرتفع بعد ذلك كله من فضلات الإقطاعات الخاصة بالسلطان من سائر الجبايات إلى قلعتها عنبا وحبوبا ما يقارب في كل يوم عشرة آلاف درهم ، وقد ارتفع إليها في العام الماضي ، وهو سنة ٦٢٥ ، من جهة واحدة ، وهي دار الزكاة التي يجبى فيها العشور من الأفرنج والزكاة من المسلمين وحق البيع ، سبعمائة ألف درهم ، وهذا مع العدل الكامل والرفق الشامل بحيث لا يرى فيها متظلّم ولا متهضّم ولا مهتضم ، وهذا من بركة العدل وحسن النية.
وأما فتحها فذكر البلاذري أن أبا عبيدة رحل إلى حلب وعلى مقدمته عياض بن غنم الفهري ، وكان أبوه يسمّى عبد غنم ، فلما أسلم عياض كره أن يقال له ابن عبد غنم فقال : أنا عياض بن غنم ، فوجد أهلها قد تحصنوا ، فنزل عليها فلم يلبثوا أن طلبوا الصلح والأمان على أنفسهم وأولادهم وسور مدينتهم وكنائسهم ومنازلهم والحصن الذي بها ، فأعطوا ذلك واستثنى عليهم موضع المسجد ، وكان الذي صالحهم عياض ، فأنفذ أبو عبيدة صلحه ، وقيل : بل صالحوا على حقن دمائهم وأن يقاسموا أنصاف منازلهم وكنائسهم ، وقيل : إن أبا عبيدة لم يصادف بحلب أحدا لأن أهلها انتقلوا إلى أنطاكية وأنهم إنما صالحوا على مدينتهم بها ثم رجعوا إليها.
وأما قلعتها فبها يضرب المثل في الحسن والحصانة لأن مدينة حلب في وطاء من الأرض وفي وسط ذلك الوطإ جبل عال مدوّر صحيح التدوير مهندم بتراب صح به تدويره ، والقلعة مبنيّة في رأسه ، ولها خندق عظيم وصل بحفره إلى الماء ، وفي وسط هذه القلعة مصانع تصل إلى الماء المعين ، وفيها جامع وميدان وبساتين ودور كثيرة ، وكان الملك الظاهر غازي بن