(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي اذكر قصته (إِذْ قالَ) ويجوز أن يتعلق ب (عَلِيمٍ). (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي عن حال الطريق لأنه قد ضله ، وجمع الضمير إن صح أنه لم يكن معه غير امرأته لما كنى عنها بالأهل ، والسين للدلالة على بعد المسافة والوعد بالإتيان وإن أبطأ. (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) شعلة نار مقبوسة ، وإضافة الشهاب إليه لأنه قد يكون قبسا وغير قبس ، ونونه الكوفيون ويعقوب على أن ال (قَبَسٍ) بدل منه أو وصف له لأنه بمعنى المقبوس ، والعدتان على سبيل الظن ولذلك عبر عنهما بصيغة الترجي في «طه» ، والترديد للدلالة على أنه إن لم يظفر بهما لم يعدم ، أحدهما بناء على ظاهر الأمر أو ثقة بعادة الله تعالى أنه لا يكاد يجمع حرمانين على عبده. (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) رجاء أن تستدفئوا بها والصلاء النار العظيمة.
(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٩)
(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ) أي (بُورِكَ) فإن النداء فيه معنى القول ، أو ب (أَنْ بُورِكَ) على أنها مصدرية أو مخففة من الثقيلة ، والتخفيف وإن اقتضى التعويض بلا أو قد أو السين أو سوف لكنه دعاء وهو يخالف غيره في أحكام كثيرة. (مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها مَنْ) في مكان (النَّارِ) وهو البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) ومن حول مكانها والظاهر أنه عام في كل من في تلك الأرض ، وفي ذلك الوادي وحواليها من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتا وخصوصا تلك البقعة الّتي كلم الله فيها موسى. وقيل المراد موسى والملائكة الحاضرون ، وتصدير الخطاب بذلك بشارة بأنه قد قضى له أمر عظيم تنتشر بركته في أقطار الشأم.
(وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) من تمام ما نودي به لئلا يتوهم من سماع كلامه تشبيها وللتعجيب من عظمة ذلك الأمر ، أو تعجب من موسى لما دهاه من عظمته.
(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ) الهاء للشأن و (أَنَا اللهُ) جملة مفسرة له ، أو للمتكلم و (أَنَا) خبره و (اللهُ) بيان له. (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان لله ممهدتان لما أراد أن يظهره ، يريد أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية الفاعل كل ما أفعله بحكمة وتدبير.
(وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١١)
(وَأَلْقِ عَصاكَ) عطف على (بُورِكَ) أي نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك ، ويدل عليه قوله (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) بعد قوله (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) بتكرير أن. (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) تتحرك باضطراب. (كَأَنَّها جَانٌ) حية خفيفة سريعة ، وقرئ «جأن» على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين. (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) ولم يرجع من عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار ، وإنما رعب لظنه أن ذلك الأمر أريد به ويدل عليه قوله : (يا مُوسى لا تَخَفْ) أي من غيري ثقة بي أو مطلقا لقوله : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) أي حين يوحى إليهم من فرط الاستغراق فإنهم أخوف الناس أي من الله تعالى ، أو لا يكون لهم عندي سوء عاقبة فيخافون منه.
(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) استثناء منقطع استدرك به ما يختلج في الصدر من نفي الخوف عن كلهم ، وفيهم من فرطت منه صغيرة فإنهم وإن فعلوها أتبعوا فعلها ما يبطلها ويستحقون به من الله مغفرة ورحمة فإنه لا يخاف أيضا ، وقصد تعريض موسى بوكزه القبطي. وقيل متصل وثم بدل مستأنف معطوف على محذوف أي من ظلم ثم بدل ذنبه بالتوبة.