(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) (٦٥)
(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) فأزمعوه واجعلوه مجمعا عليه لا يتخلف عنه واحد منكم. وقرأ أبو عمرو (فَأَجْمِعُوا) ويعضده قوله (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) والضمير في (قالُوا) إن كان للسحرة فهو قول بعضهم لبعض. (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) مصطفين لأنه أهيب في صدور الرائين. قيل كانوا سبعين ألفا مع كل واحد منهم حبل عصا وأقبلوا عليه إقبالة واحدة. (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) فاز بالمطلوب من غلب وهو اعتراض.
(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) أي بعد ما أتوا مراعاة للأدب و (أَنْ) بما بعده منصوب بفعل مضمر أو مرفوع بخبرية محذوف ، أي اختر إلقاءك أولا أو إلقاءنا أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا.
(قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى)(٦٦)
(قالَ بَلْ أَلْقُوا) مقابلة أدب بأدب وعدم مبالاة بسحرهم ، وإسعافا إلى ما أوهموا من الميل إلى البدء بذكر الأول في شقهم وتغيير النظم إلى وجه أبلغ ، ولأن يبرزوا ما معهم ويستنفذوا أقصى وسعهم ثم يظهر الله سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه. (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) أي فألقوا فإذا حبالهم وعصيهم ، وهي للمفاجأة والتحقيق أنها أيضا ظرفية تستدعي متعلقا ينصبها وجملة تضاف إليها ، لكنها خصت بأن يكون المتعلق فعل المفاجأة والجملة ابتدائية والمعنى : فألقوا ففاجأ موسى عليه الصلاة والسلام وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم ، وذلك بأنهم لطخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمس اضطربت فخيل إليه أنها تتحرك. وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان وروح «تخيل» بالتاء على إسناده إلى ضمير الحبال والعصي ، وإبدال أنها (تَسْعى) منه بدل الاشتمال ، وقرئ «يخيل» بالياء على إسناده إلى الله تعالى ، و «تخيل» بمعنى تتخيل.
(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) (٦٩)
(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) فأضمر فيها خوفا من مفاجأته على ما هو مقتضى الجبلة البشرية ، أو من أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه.
(قُلْنا لا تَخَفْ) ما توهمت. (إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) تعليل للنهي وتقرير لغلبته مؤكدا بالاستئناف ، وحرف التحقيق وتكرير الضمير وتعريف الخبر ولفظ العلو الدال على الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل.
(وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) أبهمه ولم يقل عصاك تحقيرا لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويدة الّتي في يدك ، أو تعظيما لها أي لا تحتفل بكثرة هذه الأجرام وعظمها فإن في يمينك ما هو أعظم منها أثرا فألقه. (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) تبتلعه بقدرة الله تعالى ، وأصله تتلقف فحذفت إحدى التاءين ، وتاء المضارعة تحتمل التأنيث والخطاب على إسناد الفعل إلى المسبب. وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان بالرفع على الحال أو الاستئناف وحفص بالجزم والتخفيف على أنه من لقفته بمعنى تلقفته. (إِنَّما صَنَعُوا) أن الّذي زوروا وافتعلوا. (كَيْدُ ساحِرٍ) وقرئ بالنصب على أن ما كافة وهو مفعول صنعوا. وقرأ حمزة والكسائي «سحر» بمعنى ذي سحر ، أو بتسمية الساحر سحرا على المبالغة ، أو بإضافة الكيد إلى السحر للبيان كقولهم: علم فقه ، وإنما وحد الساحر لأن المراد به الجنس المطلق ولذلك قال : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ) أي هذا الجنس وتنكير الأول