الأمر الثالث : القارورة تمص فتكب على الماء فيدخلها الماء (١) ، فإمّا أن يكون قد وقع الخلاء وهو محال ، وإمّا أن يكون الجسم الكائن فيها تخلخل بالقسر الحامل إياه على تخلية المكان ، ثمّ كثّفه برد الماء أو تكاثف بطبعه (٢) فيرجع إلى
__________________
(١) وبهذا الطريق يملئون الرشاشات الطويلة الأعناق الضيقة المنافذ جدا بهاء الورد. شرح المواقف ٦ : ٢٠٥. وهذه التجربة عند القدماء تشابه ما توصلت إليه التجارب في القرون الأخيرة ، مثل تجربة انجليستا توريشلي (١٦٠٨ ـ ١٦٤٧) (Evangelista Torricelli) الذي أخذ انبوبة بطول متر واحد (١٠٠ سم) مملوءة بالزئبق ووضعها في إناء من الزئبق فشاهد أنّ الزئبق ينخفض في الانبوبة إلى ارتفاع ٧٦ سم وترك مسافة ٢٤ سم خالية من الزئبق. وبعده قام باسكال (١٦٢٣ ـ ١٦٦٢) (Pascal) بتجارب متممة لعمل توريشلي بالقرب من سطح البحر وعلى ارتفاعات مختلفة وقام بأخذ القياسات فيها وتوصل إلى هذه النتيجة ، وهي : انّ ضغط الهواء المحيط بالكرة الأرضية (atmospheric pressure) يساوى وزن عمود طوله ٧٦ سم من الزئبق على السنتيمتر المربع الواحد عند سطح البحر وكلما ارتفعنا أكثر عن مستوى سطح البحر ينخفض الضغط الجوي ، ولذا ففي كلّ عشرة أمتار ينزل عمود الزئبق مليمترا واحدا ويزداد الفراغ في الانبوبة.
وعلى أثر هذه التجارب يمكننا إثبات الخلاء وأنه ليس بمحال ، وأنّ صعود الماء في القارورة ليس بسبب السحب من الداخل وإنّما بسبب ضغط الهواء من الخارج.
وقد كان أرسطو يقول بعدم وجود الخلاء ، وحتّى بعد قرون فإنّ جون ديكارت كان يعتقد بذلك وكان السجال بين الفلاسفة لمدة ألفي سنة دائرا حول خوف الطبيعة من الفضاء الخالي (horror vacui) ، لذلك كانوا يقولون بأنّ الطبيعة فورا تملأ كلّ جو خالي يجاورها وأنّ ذلك يمنع من وجود الخلاء.
وعلى هذا فإنّ تجارب توريشلي وباسكال في القرن ١٧ م أثبتت وجود بعض المحدودية في قدرة الطبيعة من منع وجود الخلاء. وهما أطلقا سراح العلم من وحشة الخلاء وإن كانا مسبوقين في هذا القول ببعض الفلاسفة والعلماء الإسلاميين وغيرهم. والجدير بالذكر أنّ الخلاء المطلق والفضاء الخالي من كلّ شيء لا يمكن تحصيله بالأجهزة الموجودة في عصرنا الحالي ، وأنّ ما يمكن تحصيله في الحقيقة هو الخلاء النسبي.
راجع كتاب «الفيزياء» ، تأليف ديويد هاليدي ـ رابرت رزنيك ـ Physics ـ D.Halliday) (.R.Resnick
(٢) ق : «لطبعه».