على أصل تلك العلة بالنقض والإبطال.
فإن قيل : ولم قلتم بأنها أول الواجبات سوى التفكر؟. قلنا : لأنا قد دللنا على أن العلم بالثواب والعقاب لطف في واجب ، ومن حق اللطف أن يتقدم على الملطوف فيه ؛ لأنّ الغرض باللطف هو التقرّب من الملطوف فيه ، وقد بيّنا أنّه لا يتمّ من دون هذه المعارف ، وكانت متقدّمة على ما عدا التفكر من الواجبات.
فإن قيل : دلّوا على وجوب التفكر؟. ثمّ دلّوا على أنه أول الأفعال الواجبة التي لا يعرى عن وجوبها مكلّف ليصح ما ذكرتموه؟. قلنا : الذي يدلّ على وجوب التفكر في الأدلة والبراهين الموصلة إلي معرفة ربّ العالمين ، وإلى سائر المعارف المعبّر عنها بأصول الدين ـ أنّه لا طريق للمكلفين إلى العلم بالله تعالى وبهذه المعارف سوى التفكر في الأدلة والبراهين ؛ لأنه تعالى لا يعرفه المكلفون ضرورة (١) مع بقاء التكليف (٢) ؛ إذ لو عرف ضرورة لما اختلف العقلاء فيه (٣) ؛ لأن العقلاء لا يختلفون فيما هذه حاله. ومعلوم أنهم قد اختلفوا فيه ،
__________________
(١) الضرورة : في اللغة الإلجاء ، قال تعالى : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) وفي العرف : يستعمل فيما يحصل فينا لا من قبلنا ، بشرط أن يكون جنسه داخلا تحت مقدورنا. وخالف في ذلك أصحاب المعارف كالجاحظ وأبي علي الأسواري ، فقالوا : إنه يعرف ضرورة. ينظر الأصول الخمسة ٥٢ ، وشرح الأساس ١ / ٦٢.
(٢) لأن المحتضر وأهل الآخرة يعرفون الله ضرورة ، وخالف في ذلك أبو القاسم البلخي ، وقال : إنه كما يعرف دلالة في الدنيا فكذلك في دار الآخرة ؛ لأن ما يعرف دلالة لا يعرف إلا دلالة ، كما أن ما يعرف ضرورة لا يعرف إلا ضرورة. ينظر : شرح الأصول الخمسة ٥٢ ، وشرح الأساس ١ / ٦٢.
(٣) ليس نفي من نفى الله سبحانه يدل على أنه تعالى لا يعرف ضرورة ؛ لأن النافي له لا ينفي إلا بلسانه لا بالاعتقاد ، ولا أعظم في النفي له سبحانه من قول عدوه فرعون لعنه الله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) فهذا قوله في الظاهر وهو في الباطن معترف