فشر بل لا بدّ وأن ينحو غرضا ويقصد صلاحا ويريد خيرا ، ثم إن النفع ينقسم إلى ما يرجع إلى الفاعل إن كان محتاجا إليه أو إلى غيره ، وإن كان الفاعل غنيا غير محتاج كإنقاذ الغرقى وتخليص الهلكى مستحسن في العقل ، وربما لا يكون المنقذ مكتسبا نفعا ومتوقعا حمدا أو أجرا ، وعن ذلك ورد في بعض الكتب «ما خلقت الخلق لأربح عليهم بل خلقتهم ليربحوا عليّ».
والذي يقرره : أن الحكمة في خلق العالم ظاهرة لمن تأملها بالعقل منصوصة لمن طلبها في السمع.
أما العقل : فقد شهد بأن الحكمة في خلق العالم إظهار آيات ليستدل بها على وحدانيته ويتوصل بها إلى معرفته فيعرف ويعبد ويستوجب به ثواب الأبد.
وأما السمع فآيات القرآن كثيرة منها قوله تعالى : (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الجاثية : ٢٢] ، ولهذا صار كثير من العقلاء إلى أن أول ما يخلقه الرب تعالى يجب أن يكون عاقلا مفكرا لأن خلق شيء من غير من ينظر فيه باعتبار ويتوسل إلى معرفة الباري تعالى باستبصار عبث وسفه.
قالوا : وما ذكرناه لا ينافي الغنى بل هو كمال الغنى عن خلقه فإن كمال الغنى لا يعرف إلا باحتياج كل العالم إليه واحتياج العالم إنما يعرفه العالم فيستدل به على انفراده تعالى بغناه ولله تعالى في كل صنع من صنائعه حكمة ظاهرة وآية تدل على وحدانيته باهرة لا تنكرها العقول السليمة ولا ينبو عنها إلا الأوهام السقيمة.
قال أهل الحق مسلم أن الحكيم من كانت أفعاله محكمة متقنة وإنما تكون محكمة إذا وقعت على حسب علمه وإذا حصلت على حسب علمه لم تكن جزافا ولا وقعت بالاتفاق.
وقولكم : لا بدّ وأن ينحو غرضا ويريد صلاحا فما المعنى بالغرض وما المعنى بالصلاح ولا يشك أنكم تفسرون الغرض باجتلاب نفع أو دفع ضرر إذ القادر الحق على كل شيء والغنى المطلق عن كل شيء متقدس عن الضرر والنفع والألم واللذة ويتعالى عن أن يكون محلا للحوادث قابلا للاستحالة والتغيرات ، وإن فسرتموه بنفع الغير وصلاحه فما النفع المطلق ، وما الصلاح المطلق في خلق العالم بأسره إن قلتم يستدل بوجود دلائله على وحدانيته.
قيل لكم : والحكيم إذا فعل فعلا لغرض معين وجب أن يحصل له ذلك الغرض من كل وجه ولا يتخلف غرضه من وجه وإلا فينسب إلى الجهل والعجز ومن المعلوم