ومن قال بقدمه فقد لزمه حصول العالم من الامتزاج والامتزاج إن كان خيرا فهو حصول خير من شر ، وإن كان شرا فهو حصول شر من خير ، ثم لو كان الامتزاج خيرا أوجب أن يكون الخلاص شرا لأنه ضده ولو كان شرا فالخلاص خير وعلى أي وجه قدّر فلا بد من حصول خير من شر وحصول شر من خير.
ونقول أيضا العقل بالضرورة يقضي بأن امتزاج جوهرين بسيطين لا يقتضي إلا طبيعة واحدة ونحن نرى مختلفات في العالم اختلافا في النوع والشخص والحقيقة والصورة على طبائع مختلفة وأعراض متضادة وهذه المختلفات يستحيل أن تحصل من امتزاج أمرين بسيطين فقط فإنهما لا يوجبان أمورا على خلاف ذاتيهما ولا يوجدان أكوانا على ضد طبيعتهما ، فقد بطل قولهم إن الكون والكائنات حصلت من الامتزاج بل لا بد من إسنادهما إلى فاطر حكيم قادر عليم.
وأما الكلام على المعتزلة فنذكر أولا طريق أهل السنة في إسناد الكائنات إلى الله سبحانه خلقا وإبداعا (١).
ولهم طريقان في ذلك أحدهما قولهم الأفعال المحكمة دالة على علم مخترعها إذ الإتقان والإحكام من آثار العلم لا محالة وإذا كان الفعل صادرا من فاعل متقن فيجب أن يكون من آثار علم ذلك الفاعل ومن المعلوم أن علم العبد لا يتعلق قط بما يفعله من كل وجه بل لو علمه علمه من وجه دون وجه علم جملة لا علم تفصيل فوجوه الإحكام في الفعل لم تدل على علمه وليست من آثار علمه فيتعين أن الفاعل غيره وهو الذي أحاط به علما من كل وجه وهذه الطريقة هي التي اعتمد عليها الشيخ أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه وأوردها في كتبه وفرضها في الغافل إذا صدر عنه فعل.
والحق أن الدليل ليس بمختص بالغافل فإن الغافل كما لم يحط علما بالفعل من كل وجه كذلك العالم لم يحط به علما من كل وجه والفاعل الخالق يجب أن يكون محيطا بالفعل من كل وجه إذ الإحكام إنما يثبت فيه من آثار علمه لا من آثار علم غيره ويدل على علمه لا على علم غيره فكما يستحيل إيجاد الفعل واختراعه على
__________________
(١) انظر : غاية المرام (ص ٢٠٦ ، ٢١٢ ، ٢١٤) ، والفرق بين الفرق للبغدادي (ص ١٢٠ ، ١٢٤ ، ٢٦٩ ، ٣١٧ ، ٣٤٩) ، ومقالات الإسلاميين للأشعري (ص ٤٨٥) ، والفصل في الملل والنحل لابن حزم (١ / ٤٣ ، ٤٤) ، والملل والنحل للمصنف (١ / ٢٣٧ ، ٢٤٤ ، ٢٥٣) ، وفضائح الباطنية للغزالي (ص ٤٠) ، واختلاف فرق المسلمين والمشركين للرازي (ص ٨٨ ، ٨٩) ، والمواقف للإيجي (٢ / ٦٠٨ ، ٦١٦).