أما الإثبات فعلى أصلكم لم يوصف الباري سبحانه بالحوادث في ذاته فكيف يصح على مذهبكم أنه صار سميعا بصيرا وإن التزمتم الاتصاف فقد سلمتم لنا المسألة فإن الاتصاف بصفة لم يكن قبل صريح التغيير والتغيير دليل الحدوث وهذه الحوادث باقيات على مذهبكم والمتعلقات فانية وإثبات صفة من الصفات المتعلقة يتأخر تعلقها أو متعلقها غير مستحيل كالعلم والقدرة والمشيئة أما إثبات صفة باقية يتقدم تعلقها أو متعلقها فهو مستحيل فإنه إذا أراد وجود العالم بإرادة حادثة في ذاته ووجد العالم وبقي وفني فهو مريد أبد الدهر وقائل كن أبد الدهر لشيء قد تكون وفني وسامع لصوت وحرف قد مضى وانقضى وبصير لجسم ولون قد انقرض في غاية الاستحالة.
ونقول هذه الحروف التي أثبتموها هي حروف مجردة من غير أصوات أم هي حروف هي تقطيع أصوات فإن أثبتموها حروفا من غير أصوات فهي غير مسموعة ولا هي معقولة فإن حقيقة الحرف تقطيع صوت والصوت بالنسبة إلى الحروف كالجنس بالنسبة إلى النوع والعرض بالنسبة إلى اللون فإن أثبتوا حروفا هي أصوات مقطعة فلا بد لها من اصطكاكات أجرام حتى يتحقق الصوت (١) ، فإن اصطكاك الأجرام كالنوع بالنسبة إلى الحركة والصوت كالنوع بالنسبة إلى الاصطكاك ولا بد من حركة حتى يتحقق اصطكاك أو تفكيك ، ولا بدّ من اصطكاك حتى يتحقق الصوت ، ولا بدّ من صوت حتى يتحقق حرف ، ولا بدّ من حرف حتى تتحقق كلمة ، ولا بدّ من كلمة حتى يتحقق قول تام ، ولا بدّ من قول حتى تتحقق قصة وحكاية فيلزم على ذلك أن يكون الباري جسما متحركا ذا اصطكاك في أجزاء جسمية ، ويتعالى الرب سبحانه عن ذلك علوا كبيرا.
وقد تخطى بعض الكرامية إلى إثبات الجسمية : فقال أعني بها القيام بالنفس وذلك تلبيس على العقلاء وإلا فمذهب أستاذهم مع اعتقاد كونه محلا للحوادث قائلا بالأصوات مستويا على العرش استقرارا مختصا بجهة فوق مكانا واستعلاء فليس ينجيه من هذه المخازي تزويرات ابن هيصم (٢) ، فليس يريد بالجسمية القائم بالنفس ولا بالجهة الفوقية علاء ولا بالاستواء استيلاء وإنما هو إصلاح مذهب لا يقبل الإصلاح وإبرام معتقد لا يقبل الإبرام والإحكام وكيف استوى الظل والعود أعوج وكيف استوى المذهب وصاحب المقالة أهوج والله الموفق.
__________________
(١) انظر : غاية المرام للآمدي (ص ٩٢).
(٢) انظر : الفرق بين الفرق (ص ٨٧) ، وأبو بهيس هيصم بن عامر ، وتنسب له البيهسية.