على أنّه لو قدّرنا أنّ بين الجماعة الّتي وصفنا حالها وكثرتها نبيّا أو رجلا صالحا يتّفقون على ولايته وتعظيمه ، ويتديّنون بدفع المكاره عنه ، وأنّ بعض الظّالمين جمعهم وسألهم عن مكانه ، وغلب في ظنونهم أنّهم إن دلّوه على موضعه قتله ، لعلمنا أنّهم لا بدّ أن ينكروا معرفة مكانه ، ويمتنعوا من الإرشاد إليه ؛ وإن قوي في نفوسهم أنّ النّبيّ أو الصّالح لا ينجو من يد هذا الظّالم ، وأنّه لا ينتهي عن البحث عنه والتنقير (١) عن مكانه إلّا بأن يخبروه بأنّه قد خرج عن بلدهم وبعد عنهم ، لم يمتنع أيضا أن يخبره الجماعة بذلك.
فقد جاز على الجماعة الكثيرة أن تدّعي في الشّيء الواحد ما يعلم خلافه ، وتكتم الشّيء الواحد الّذي يقف على مكانه.
فأمّا التشنيع بكتمان الجسر فإنّما يبعد كتمان مثله ؛ لأنّه لا داعي يدعو إليه ، ولشهرة مكان الجسر أيضا ، وأنّه ممّا يظهر عليه بأهون سعي وأيسر أمر ، ولكثرة عدد المخبرين عنه والعارفين به. وما يكون الكتمان نافيا لخبره وماحيا لأثره ليس كذلك.
ولكن ليس ينكر أن يكون لأهل البلد في أحد جانبيه ذخائر جمّة وودائع وتجارات كثيرة وبضائع ، ويقصدهم من الجانب الآخر بعض الجائرين ؛ فيسألهم عن مكان الجسر ليعبر عليه ، فيحوز أموالهم. وهم يعلمون أنّ سؤاله لذلك لا لغيره ، وأنّه لا يجد مخبرا عن الجسر سواهم ، وليس ممّن يطول مقامه بينهم فيقف على مكانه بنفسه أو ببعض أصحابه ، فلا بدّ أن يتلقّوه (٢) جميعهم بالجحود والإنكار ، سواء أفرد كلّ واحد منهم بالسؤال أو ضمّه إلى غيره. بل هؤلاء وحالهم هذه ملجئون إلى الكتمان وترك الاعتراف.
__________________
(١) نقرت عن الأمر : إذا بحثت عنه.
(٢) في الأصل : أن يتلقّاهم ، والمناسب ما أثبتناه.