فيقال لمن تعلّق بهذا : ليس يجب لو كان من فعل النّاقص عن كمال العقل أن يظهر فيه الاضطراب والتّفاوت كما ظننت ؛ لأنّ الحذق بأكثر الصّنائع لا يفتقر إلى كمال العقل ووفوره ، وإنّما يحتاج في الصّنعة المخصوصة إلى العلم بها ، فليس يضرّها ـ مع وجود العلم بها ـ فقد العلوم الّتي هي العقل ، ولهذا نجد كثيرا من أهل الحذق بالصّنائع والتّقدّم فيها بلها [غير] عقلاء ، ويقطع في أكثرهم على خروجه من جملة المكلّفين ، وبعده عن كمال العقل!
فمن أين لك أنّ فقد التّفاوت والاختلال يدلّ على أنّه ليس من فعل خارج عن الكمال؟ ثمّ من أين أنّ المؤمنين من الجنّ لا يقع منهم استفساد لنا وتلبيس علينا ، ونحن نعلم أنّ الإيمان لا يمنع من المعاصي والفسوق؟
وأكثر ما في هذا الفعل أن يكون معصية لله تعالى ، والإيمان غير مانع من ذلك ، سواء [من] قبل مذهب أصحاب الإحباط (١) ، أو مذهب من نفاه ؛ لأنّه على المذهبين معا جائز أن يعصي المؤمن. وإنّما الخلاف في زوال ثواب إيمانه بالمعصية ، أو ثبوته معها.
ثمّ من أين أنّ كفّار الجنّ لو كانوا صنعوه لوجب أن يعارضه المؤمنون؟! وهذا إنّما يثبت لك بعد ثبوت أمرين :
أحدهما : أن مؤمني الجنّ لا بدّ أن يتمكّنوا من الفصاحة التي يتمكّن كفّارهم
__________________
(١) الإحباط يراد به خروج الثواب والمدح المستحقّين بثواب ومديح ، عن كونهما مستحقّين بذمّ وعقاب أكثر منها لفاعل الطاعة.
ولا خلاف بين المسلمين في أنّ الكفر يزيل استحقاق ثواب الطاعات السابقة ، والإيمان يزيل استحقاق العقاب السابق ، وإنّما الخلاف في أنّه هل يجوز اجتماع استحقاق الثواب والعقاب من غير أن يحبط أحدهما الآخر أم لا؟ فمن يذهب إلى عدم جواز اجتماع الاستحقاقين يقول بالإحباط ، وهو مذهب الأشاعرة وجمهور المعتزلة. والإماميّة على خلافهم ؛ فإنّهم يقولون بأنّ العقاب الطارئ لا يحبط الثواب الأوّل.