وملئوا به الدّروس (١) ، واستنفدوا فيه الأعمار ، كان مستقرّا عند العرب ومجموعا علمه لهم. وليس يظنّ مثل هذا الأمر ذو العقل فضلا عن أن يعتقده.
وكيف يتوهّم هذا ، ونحن نعلم أنّ شبهة الجنّ إنّما زادها متكلّموا الإسلام على أنفسهم قريبا ، ولقنها منهم المخالفون في الملّة ، واتّخذوها شبهة وعمدة. وأنّها لم توجد في كتب من تقدّم من المتكلّمين وفي جملة ما زادوه على نفوسهم في القرآن ، مع ما أنّهم قد استقصوا ذلك بجهدهم ، وبحسب مبلغ علمهم؟!
ولا سمعت أيضا فيما تقدّم [من] أحد من المخالفين ، مع تعلّقهم بكلّ باطل وتوصّلهم إلى كلّ ضعيف من الشّبه. وما يغرب استدراكه على حذّاق المتكلّمين ووجوه النظّارين ، ثمّ على أهل الخلاف في الله (٢) ـ وفيهم من له حذق بالنّظر وخواطر قريبة فيه ـ أولى وأحرى بأن يذهب على العرب ، ولا يخطر لهم ببال ، وليس النظر من صنعتهم ، ولا استخراج ما جرى هذا المجرى في قولهم؟!
ثمّ يقال لهم : إذا جعلتم ترك العرب المواقفة على ما ذكرتموه دليلا على أنّ القرآن ليس من فعل الجنّ ، ولا واردا من جهتهم ، فخبّرونا عنهم لو واقفوا على ذلك وادّعوه لكانت مواقفتهم دليلا على أنّه من فعل الجنّ!
فإن قالوا : «نعم» قالوا ما يرغب بالعقلاء عن مثله ، وطولبوا بتأثير موافقتهم وتركها في الأمرين جميعا ، ووجه دلالتها ، فإنّهم لا يجدون متعلّقا.
فإن قالوا : لا تدلّ دعواهم على أنّه من فعل الجنّ ، ومواقفتهم على ذلك على أنّه من فعلهم في الحقيقة.
قيل لهم : فكيف لم تدلّ المواقفة على هذا ، ودلّ تركها على ما ادّعيتموه؟!
__________________
(١) هكذا في الأصل ، ولعلّها : الطّروس ، أي الأوراق.
(٢) كذا في الأصل.