رحلت ناقتي ، ثمّ أخذت بزمامها. فقدت بها (١) حتّى أتيت ذبابا ـ وهو جبل بالمدينة ـ ثمّ ناديت بأعلى صوتي : أجيبوا أخاكم أبا لبينى!
فجاش صدري كما يجيش المرجل (٢) فعقلت ناقتي ، وتوسّدت ذراعها ، فأقمت حتّى قلت مائة وأربع عشرة قافية! فبينا هو ينشدهم ، إذا طلع الأنصاريّ حتّى انتهى إليهم ، فقال :
أما إنّي لم آتك لأعجلك عن الأجل الذي وقّتّه لك ، ولكنّي أحببت ألّا أراك إلّا سألتك ما صنعت؟ فقال له الفرزدق : اجلس ، ثمّ أنشده.
عزفت بأعشاش ، وما كنت (٣) تعزف |
|
فأنكرت (٤) من حدراء ما كنت تعرف (٥) |
و «أبو لبينى» الّذي ناداه الفرزدق في هذه القصيدة هو الذي يقال : إنّه شيطان الفرزدق والمظاهر له على قول الشّعر والملقية إليه ، كما قالوا : إنّ عمرا شيطان المخبّل السّعديّ (٦) ، وإنّ مسحلا شيطان الأعشى. وأنشدوا في ذلك قول الأعشى :
دعوت خليلي مسحلا ، ودعوا له |
|
جهنّام ، جدعا للهجين المذمّم (٧) |
وهو الّذي يعنيه بقوله في هذه القصيدة أيضا :
حباني أخي الجنّيّ ، نفسي فداؤه |
|
بأفيح جيّاش من الصوت خضرم (٨) |
__________________
(١) في الأغاني : فقدتها.
(٢) المرجل : قدر من نحاس ، وقيل : يطلق على كلّ قدر يطبخ فيها.
(٣) في الديوان والأغاني : كدت.
(٤) في الديوان : وأنكرت.
(٥) شرح ديوان الفرزدق لإيليا حاوي ٢ / ١١٣.
(٦) هو ربيعة بن مالك بن ربيعة بن عوف السّعديّ ، من بني تميم ، شاعر فحل من مخضرمي الجاهليّة والإسلام ، هاجر إلى البصرة وعمّر طويلا ، مات في حكومة عمر أو عثمان ، له شعر كثير جيّد.
(٧) ديوان الأعشى / ١٨٣. جهنّام : تابع مسحل ، من الجنّ.
(٨) ديوان الأعشى / ١٨٤. وفيه : بأفيح جيّاش العشيّات خضرم.