وإن لم يجز أن يظهره على كذّاب ، هو أنّه لا يتميّز من الرّسول الصّادق خطاء ، لأنّ العلّة لو كانت ما ذكرناه لكان لمن خالف في أصل النّبوّات أن يقول : وأيّ شيء في ارتفاع تمييز الصّادق من الكذّاب من طريق الدّلالة ، إذا لم يكن لذلك وجه في العقول ، ولا عليه دلالة؟!
فدلّوا أوّلا على أنّ المعجز دالّ على الصّدق في بعض المواضع ، ليصحّ أن يمنعوا من ظهوره غير دالّ عليه ، ويقولوا : إنّه يقتضي التباس الصّادق بالكاذب. والرّجوع إلى ما ذكرناه في المنع من ظهور المعجز على الكذّاب هو الصّحيح.
على أنّ ما ذكرناه لو كان صحيحا نصّا وواقعا في المنع من إظهار المعجز على من ليس بصادق موقعه ، لم يكن ما بناه عليه صحيحا ؛ لأنّه ظنّ أنّ المعجز إذا مكّن الله تعالى منه المتنبّي ، فقد ارتفع طريق التمييز بين الصّادق والكاذب ـ كما يكون مرتفعا لو أظهره على يده ـ ليس لأمر كما ظنّه ؛ لأنّ الطّريق إلى تمييز الصّادق من الكاذب باق مع تجويز ما ذكرناه ، وهو بأن يظهر على يد المدّعي ما يعلم أنّ الله تعالى هو الّذي خصّه به ، وأيّده بإظهار عليه.
وليس هذا استفسادا كما قال ؛ لأنّه تعالى قد مكّننا من ألّا ننفسد بما يجري هذا المجرى ، ودلّنا على أنّه لا يحسن منّا تصديق من لم يعلم أنّه تعالى هو المصدّق له.
وأيّ استفساد يرجع إلى الله تعالى؟ وإنّما المستفسد لنا من أظهر ما لم يخصّه الله تعالى به ، وادّعى من الاختصاص ما ليس بصادق فيه.
فأمّا المنع من الاستفساد فلا يجب بأكثر من الأمر والنهي اللّذين لا ينافيان التّكليف ، فمن ادّعى فيها زائدا على ما ذكرناه وأوجبه على الله تعالى فقد أوجب على الله تعالى ما لا وجه لوجوبه.