الثاني ، فمتى لم ينصح نفسه ، وقصّر في النّظر ، واشتبه عليه الأمر كان اللّوم عليه ، والله تعالى بريء من عهدته.
فإن قال : أرى كلامك هذا مخالفا للأصول الّتي قرّرها الشّيوخ في باب الاستفساد ، لأنّهم (١) أوجبوا منع القديم تعالى من الاستفساد ، كما أوجبوا أن لا يفعله ، ولم يفرّقوا بين الأمرين ، ولم يجر عندهم مجرى غيره من ضروب القبائح ، بل أجازوا فيما لم يكن استفسادا من القبيح ألّا يمنع تعالى منه ، وإن لم يجز أن يفعله فكيف ألحقتم أحد الأمرين بالآخر؟
قيل له : ليس الاستفساد ـ أوّلا ـ هو : ما وقع عنده القبيح والفساد ، لكنّه ما وقع عنده الفساد من المكلّف ، ولو لاه لاختار الصّلاح من غير أن يكون تمكينا من الأمرين ، بل يكون المكلّف متمكّنا من الصّلاح والفساد مع عدمه ، كما هو متمكّن منهما مع وجوده. وهذا ما لا خلاف بيننا فيه.
وقد علمت أنّ أبا هاشم (٢) يجيز أن يقوّي الله تعالى شهوة المكلّف ، فيصير فعل الواجب والامتناع من القبيح عليه شاقّا ، ويستحقّ من الثّواب عليهما أكثر ممّا كان يستحقّه لو لم يكن بهذه الصّفة ، وإن كان في معلومه تعالى أنّ المكلّف (٣) عند زيادة الشّهوة وقوّتها يفعل [المعصية] (٤) ولا يختار الطّاعة ، وأنّه لو ضعّف شهوته
__________________
(١) قبلها زيادة في هامش الأصل بلا علامة التصحيح لا توافق السياق ، هي : «لأنّها كما أوجبوا منع القديم تعالى من الاستفساد».
(٢) هو أبو هاشم عبد السلام بن محمّد بن عبد الوهّاب الجبّائيّ. ولد سنة ٢٧٧ ه بجبّا من أعمال خوزستان ، وعاش ببغداد. يعدّ أبو هاشم من رءوس المعتزلة وأئمّتها ومنظّريها ، وصاحب آراء ونظريّات ومدرسة تتلمذ فيها جماعة من أعلام القرن الثالث والرابع ، منهم الصاحب بن عبّاد. أطلق على أصحابه وأتباع مدرسته اسم (البهشميّة) ، توفّي ببغداد سنة ٣٢١ ه. له تصانيف عديدة.
(٣) في الأصل : الكذب ، والمناسب ما أثبتناه.
(٤) زيادة يقتضيها السياق.