تدّعون أنّهم كانوا متى همّوا بالمعارضة وراموا فعلها ، صرفوا عنها وأفقدوا العلوم الّتي تتأتّى معها ، لا بدّ من أن يكونوا عارفين بذلك من أحوال أنفسهم ، ومميّزين بين أوقات المنع والتّخلية.
وإذا كانت معرفتهم به واجبة ، وكان أمرا خارقا لعادتهم مباينا لسنّتهم ومذاهبهم ، فلا بدّ من أن يتذاكروه ويتفاوضوه ، ويخوضوا فيه ، ويعجبوا منه ؛ لأنّ النفوس مولعة بذكر العجائب ، ملهية بنشر الغرائب ، بهذا قضت العادات ، وعليه دلّت التّجارب ، وهو أصل في باب الأخبار ومعرفة الحوادث كثير ، متى نقضه ناقض لزمه من الجهالات ما لا قبل له به.
وإذا كان الخوض فيما ذكرناه لا بدّ أن يقع بمجرى العادة فلا بدّ أن يكون ظاهرا فاشيا ؛ لأنّ ظهور الشّيء وبروزه ، إنّما يكونان بحسب موقعه من النّفوس ، وبقدر الاهتمام به ؛ والاهتمام به يكون بقدر استغرابه واستطرافه. فإذا انضاف إلى الاستغراب والاستطراف ما يرجع إلى المنافع ودفع المضارّ ، قويت دواعي الإعلان وتأكّدت.
وإذا كان الظّهور واجبا فواجب حصول العلم به وزوال الرّيب فيه ، كما حصل العلم بجميع ما جرى مجراه من أحوال القوم وأفعالهم الظّاهرة.
وكيف لا يكون ذلك معلوما لنا ، إذا فرضنا ظهوره من القوم ووقوع الخوض منهم فيه ، وعناية سلفنا بنقل ما جرى مجراه من آيات النّبيّ صلىاللهعليهوآله وبراهينه ومعجزاته ، أتمّ عناية وأوفرها.
ولا شيء أظهر وأكبر في باب الدّلالة والآيات من اعتراف العرب بما يجدون أنفسهم عليه من المنع عن المعارضة. وفي ارتفاع العلم دلالة على أنّه لم يقع هناك خوض فيه وتحدّث به ، وإذا لم يجر شيء من ذلك فلا صرفة.