وإذا كنّا قد بيّنا أنّ الدّاعي إلى كلّ هذه الأمور هو الدّاعي إلى المعارضة ، بل ليس يصحّ أن يكون داعيا إلى شيء منها إلّا بعد عوز المعارضة وتعذّرها ؛ لأنّ الغرض من المطلوب بها يقع دون غيرها ؛ فقد تمّ ما أوردناه.
والجواب عمّا ذكرناه ثانيا : إنّ القوم وإن لم يكونوا من أهل النّظر والجدل ؛ فليس يجوز أن تدخل عليهم شبهة لا يجوز دخول مثلها على أحد من العقلاء ، بل على من نقص عن مرتبة العقلاء من الصّبيان ؛ لأنّه لا أحد من النّاس قرّع بفعل من الأفعال وادّعي عجزه عنه ، إلّا وهو يفزع إلى فعله إذا كان ممكنا.
ولا يجوز أن يشتبه ذلك عليه ، حتّى يظنّ أنّ العدول إلى غير الفعل أولى ، ولهذا نجد الصّبيان متى (١) تحدّى بعضهم بعضا برمي غرض أو طفر نهر ، فإنّ المتحدّى يبادر إلى فعل ما تحدّي به إذا كان ممكنا. ولا يصحّ أن يصرفه عنه صارف مع الإمكان.
وما يكون العلم به ضروريّا متقرّرا في كلّ العقول ـ وافرها وناقصها ـ لا يجوز أن يشكل على العرب ـ مع وفور عقولهم وحلومهم ، وإن لم يكونوا من أهل الجدل والنّظر ـ على أنّ القوم قد اختصموا في هذا الباب بما لا يسوغ معه دخول الشّبهة عليهم فيه لو ساغ ؛ فعوّلوا على غيره ؛ لأنّ عادتهم جارية بالتّحدّي بالشّعر والتّعارض فيه ، والتّحاكم إلى الحكّام في تفضيل بعضه على بعض. ولم نجد أحدا منهم ـ في سالف ولا آنف ـ فزع عند تحدّي خصمه له بالقصيدة من الشّعر ، إلى سبّه وحربه! بل إلى معارضته بما يمكنه من الشّعر. وهذه عادة القوم مستقرّة مستمرّة ، لم تتخرّم في وقت من الأوقات ؛ فكيف عدلوا في باب القرآن عن عادتهم وطريقتهم لو لا أنّ معارضته متعذّرة وغير ممكنة؟!
__________________
(١) في الأصل : من ، والمناسب ما أثبتناه.