أمّا تعلّقهم بأنّه صلىاللهعليهوآله كان أفصحهم ، فيسقط من وجوه :
أوّلها : إنّ كونه أفصحهم لا يمنع من أن يقارب كلامهم كلامه مقاربة قد جرت بمثلها العادة ؛ لأنّه ليس يصحّ في العادة أن يتقدّم أحد في شيء من الصّنائع حتّى لا يقاربه فيها غيره ، بل لا بدّ ـ وإن انتفت (١) المساواة ـ من المقاربة. وقد مضى أنّه تحدّاهم بأن يأتوا بما يقاربه لا بما يماثله على التّحقيق ؛ فقد كان يجب أن يعارضوا وإن كان أفصحهم.
على أنّا قد بيّنا أنّ التحدّي وقع بالقرآن [من جهة] المعارضة ؛ فيعلم أنّهم عنها مصروفون ، وأنّه إنّما طالبهم بأن يفعلوا من الكلام ما كان المعلوم من حالهم تمكّنهم منه وأنّه الغالب على كلامهم دون ما تشكل الحال فيه ، وذلك يسقط التعلّق بكونه أفصحهم ؛ لأنّه لم يطالبهم إلّا بما يعهدون ويعرفون من الفصاحة على طريقتنا.
وثانيها : إنّ الأفصح وإن امتنعت مساواته من جميع كلامه ؛ فإنّ مساواته في البعض غير ممتنعة ، بهذا جرت العادات.
ألا ترى أنّ من كان في الطّبقة الأولى من الشّعراء ـ وإن كانوا قد بانوا من سائر أهل الطّبقات وتقدّموهم في الفصاحة ـ فإنّه لا بدّ أن يكون في كلام من تأخّر عنهم ما يساوي كلامهم بل ربّما زاد عليه ، ولهذا نجد كثيرا من المحدثين يساوون [شعراء] الجاهليّة ويماثلونهم في مواضع كثيرة من كلامهم ـ وإن كان المتقدّمون يفضلونهم في جملة كلامهم وعمومه ـ فقد كان إذا كان التّحدّي وقع بسورة من عرضه ، وإن قصرت ، أن يعارض ولا يمنع التقدّم في الفصاحة من معارضته.
وثالثها : إنّ هذا لو كان جائزا لكان القوم الّذين تحدّوا بالقرآن فعجزوا عن معارضته ، إليه أهدى وبه أعلم ؛ فكان يجب أن يواقفوه على ذلك ويحتجّوا به ،
__________________
(١) في الأصل : وارتفعت ، ولا معنى لها هنا ، والظاهر ما أثبتناه.