القرآن إلى فصيح كلام العرب ، إنّما هو في كلامهم قبل زمان التحدّي ، فأمّا فيما وقع منهم بعده فالأمر ظاهر ، والفرق واضح. وهذا ممّا يعلمون ضرورة خلافه ؛ لأنّنا لا نجد من الفرق بين ما نضمّه إلى القرآن من كلام العرب وأشعارها قبل التّحدّي إلّا ما نجده بينه وبين كلامهم بعد ظهور القرآن ووقوع التّحدّي به.
وهذا متى لم تسلّموه ، وزعمتم أنّ بين كلامهم قبل التّحدّي وبعده هذا الفرق العظيم ، وأحلتم بمعرفته على غيركم أو ادّعيتموها لأنفسكم ، طرّقتم على دليلكم الّذي قدّمتموه ما يهدمه ؛ لأنّه معقود بهذا المعنى ومبنيّ عليه.
وإن كانت دواعيهم التي صرفت عن المعارضة ، فذلك فاسد من وجوه :
أحدها : إنّا نعلم ـ نحن وكلّ أحد ـ توفّر دواعي القوم (١) إلى المعارضة وشدّة حرصهم وكلبهم (٢) عليها. ولو كانت دواعيهم إلى المعارضة مصروفة لما علم ما ذكرناه منهم.
ومنها : أنّ الدّواعي إلى المعارضة ليست أكثر من علمهم بتمكّنهم منها ، وما يعود بها من النّفع ، ويندفع من الضّرر. وكلّ هذا يعلمه القوم ضرورة ، بل العلم به ممّا يعدّ من كمال العقل ؛ فليس يصرفهم عن هذه الدّواعي (٣) إلّا ما أخرجهم من كمال عقولهم وألحقه بأهل النّقص والجنون ، ولم يكن القوم كذلك.
ومنها : أنّ ما صرف عن المعارضة لا بدّ أن يكون صارفا عمّا في معناها ، وعمّا يكون الدّواعي إليه داعيا إليها. وقد علمنا أنّهم لم ينصرفوا عن السّبّ والهجاء وعن المعارضة ، ممّا لا يشتبه على عاقل جهل من عارض بمثله وسخفه ،
__________________
(١) يقصد بهم كفّار قريش والمشركين في جزيرة العرب ، الذين كانوا يعارضون رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ويناوءون دعوته بشتّى الوسائل.
(٢) يقال : رجل كلب ، إذا اشتدّ حرصه على الشيء.
(٣) في الأصل : الدعاوى ، وما أثبتناه مناسب للسياق.