تقلّ وتصغر. وأين الرغبة في المال ، ومباهاة النّظراء ، والتّقدّم عند الأمراء ، من الضّرّ (١) بفراق الأوطان الّتي فيها نشئوا ، وهجر الأديان الّتي عليها ولدوا؟!
وأين فوت المال من فوت العزّ وحرمان الوجاهة عند بعض النّاس ، من حرمان الرئاسة على جميع النّاس؟!
وكلّ ذلك أصاب العرب ونزل بهم ، وفي بعض ما يظفر بكلّ نظم ، ويهدي إلى كلّ قول.
على أنّا قد بيّنا أنّ نظم مثل بعض سور القرآن لا يتعذّر على من احتذاه ممّن (٢) لا فصاحة له ، ولا تصرّف له في أوزان الكلام ؛ فأجدر أن يتأتّى للعرب ، لو لم يصدّوا ولم يصرفوا.
فإن قال : فهبوا أنّ التّحدّي وقع بالإتيان بمثل القرآن في الفصاحة والنّظم معا حسب ما ذكرتم ، وأنّ في كلامهم الفصيح ما يقارب بعضه مقاربة تزيل خرق العادة بفصاحته ، وأنّ النّظم كانوا يتمكّنون منه على سبيل الاحتذاء ، كما يتمكّن منه من تعاطاه منّا بغير كلام فصيح ، لم أنكرتم أن يكون إنّما تعذّر عليهم ضمّ أحد الأمرين إلى الآخر ، حتّى يوردوا فصاحتهم وألفاظهم الجزلة ، ومعانيهم الحسنة الّتي يستعملونها في شعرهم ونثرهم ، في مثل هذا النّظم ، كما قد يكون بعض الشّعراء في بعض أوزان الشّعر وأعاريضه أفصح في غيره من الأوزان ، وكلامه فيه أجزل ، ومعانيه أوقع ، وإن كان قادرا على التّصرف في سائر الأوزان؟
وكما يكون من جمع بين النّظم والخطابة ، كلامه في أحدهما أفصح ، ومنزلته أعلى ، مع تمكّنه من الأمرين؟! وإذا كان هذا ممّا جرت العادة بمثله ، فما الحاجة إلى الصّرفة؟
__________________
(١) في الأصل : الضّنّ ، وما أثبتناه مناسب للسياق.
(٢) في الأصل : من ، والمناسب ما أثبتناه.