معهودا بيننا ، فبأيّ شيء فقتنا وفضلت علينا؟! وأين المعجز الّذي لا بدّ لمدّعي النّبوّة منه؟! وعن أيّ شيء صرفنا؟!
وفي عدول القوم عن هذا ـ وفيه لو اعتذروا به أوضح العذر وأكبر الحجّة ـ دليل على صحّة طريقتنا.
فإن قال : أراكم تسومون (١) العرب من الاحتجاج والمواقفة ، بما لا يهتدي إليه إلّا حذّاق المتكلّمين وأولو التدقيق منهم ؛ لأنّ العلم بالفصل بين ما يتعذّر على الخلق ولا يكون معجزا ولا خارقا للعادة وبين ما يتعذّر عليهم ويكون كذلك ، والتمييز بين التفاضل المعتاد والتفاضل الّذي ليس يعتاد (٢) ، أمر موقوف على النظر الّذي ليس من شأن القوم ، ولا يحسنونه. وإنّما وجدوا ما دعاهم إلى الإتيان بمثله ، فتعذّر عليهم ، ولم يبحثوا عن علّة هذا التعذّر وسببه ، وهل العادة جارية بمثله ، أم غير جارية؟ فلهذا لم يواقفوا.
قيل له : ليس يفتقر ما ذكرناه إلى دقيق النّظر كما ظننت ، بل العلم به قريب من أوائل العقول الّتي لا اختصاص فيها بين العقلاء ، وذلك أنّ كلّ عاقل يعلم أنّ النّبيّ لا بدّ أن يبين (٣) من غيره ، ويختصّ بما لا يشركه فيه من ليس بنبيّ.
ويعلم أيضا : أنّ الذي يبين به لا يجوز أن يكون أمرا معتادا ؛ لأنّ المعتاد لا إبانة فيه. ولو أنّه ممّا يقع به الإبانة لوقعت بكلّ معتاد حتّى يدّعى بالأكل والشّرب ، والقعود والنهوض ، وهذا ممّا يعلمه جميع العقلاء. والعرب لا محالة عالمون به ، وعاقلون أيضا بأنّ شاعرهم قد يجوّد في بعض الأوزان ، ويقصّر في غيرها. وهذا ممّا إليهم المرجع في علمه.
فلو كانت حال القرآن في تعذّره على سائرهم حال ما يقصّر فيه بعض الشّعراء
__________________
(١) سامه الأمر : أي كلّفه إيّاه ، وألزمه به.
(٢) هكذا في الأصل ، ولعلّه : بمعتاد.
(٣) أي يبرز ويتشخّص عن غيره.