قيل له : المثل في الفصاحة ـ الذي دعوا إلى الإتيان به ـ هو ما كان المعلوم من حالهم تمكّنهم منه وقدرتهم عليه ، وهو المقارب والمداني لا المماثل على التحقيق الّذي ربّما أشكل كيف حالهم في التمكّن منه ، فالّذي يكشف عن ذلك أنّه : ليس يخلو القرآن في الأصل من أن تكون العادة انخرقت بفصاحته ، ويكون التحدّي بإتيان مثله (١) مصروفا إلى ما أدخله في المعتاد ، وأخرجه من انخراق العادة به. أو أن يكون معتادا ، والتحدّي وقع بالصّرف عن معارضته. ويكون دعاؤهم إلى فعل مثله ليمتنعوا ، فتنكشف الحال في الصّرفة.
فإن كان الأوّل فقد دللنا فيما تقدّم على أنّ العادة لم تنخرق به ، وأنّ خفاء الفرق بين بعض ما وقع به القرب (٢) منه ، وبين فصيح كلام العرب يدلّ على التماثل والتقارب المخرج له من أن يكون خارقا للعادة ، وأشبعنا القول في ذلك. وإن كان الأمر جرى على الوجه الثّاني فهو الذي نصرناه.
وليس يخلو المثل الذي دعوا إلى الإتيان به بعد هذا من أن يكون هو الذي قد علم من حالهم أنّهم متمكّنون منه ، وأنّه الغالب على كلامهم والظّاهر على ألسنتهم ، فذاك المقارب لا المماثل على التّحقيق ؛ لأنّ المماثل ممّا لا يظهر تمكّنهم منه هذا الظّهور. ولو كانوا إلى ذلك دعوا لوجب أن يعارضوا. وإذا لم يفعلوا ـ مع توفّر الدّواعي ـ فلأنّهم صرفوا. ويكون ما دعوا إلى فعله هو المماثل على الحقيقة.
فإن كانوا دعوا إلى ذلك لم يخل حالهم فيه من أمرين : إمّا أن يكونوا قادرين عليه ومتمكّنين منه ، أو غير متمكّنين.
ولو قدروا وتمكّنوا ، لوجب أن يفعلوا. وإن كانوا غير متمكّنين ـ لا لأنّهم صرفوا عن ذلك وأفقدوا العلم به في الحال ، بل بقصورهم عن نظمه في الفصاحة ،
__________________
(١) في الأصل : إتيان بمثله ، والمناسب ما أثبتناه.
(٢) هكذا تقرأ الكلمة في الأصل ، وقد تقرأ : «الفرق».