فإن كانوا قد استعملوا لفظة «مقدر» فيمن مكّن غيره من الأسباب والآلات من غير أن يفعل له قدرة في الحقيقة ، فكذلك (١) استعملوا لفظة «معجز» فيمن فعل ما يقدر معه [على] الفعل ، من سلب آلة وما جرى مجراها وإن لم يكن فعل عجزا ، غير أنّ التعارف والاصطلاح قد ينقل (٢) هذه اللّفظة ـ أعني لفظة «معجز» ـ عن أصل وضعها ، وجعلوها مستعملة فيما تعذّر على العباد مثله ، سواء كان التعذّر لأنّهم غير قادرين على جنسه ، أو لأنّهم غير متمكّنين من فعل مثله في صفته.
وكذلك كان نقل الجبال عن أماكنها ، ومنع الأفلاك من حركاتها معجزا ، كما كان إحياء الموتى ، وإعادة جوارح العمي والزّمنى معجزا ، وإن كان جنس الأوّل مقدورا لهم ، وجنس الثّاني غير مقدور.
وإذا صحّ هذا لم يمتنع القول بأنّ القرآن معجز ، من حيث كان وجود مثله في فصاحته وطريقة نظمه متعذّرا على الخلق ، لا اعتبار بما له تعذّر ؛ فإنّ ذلك وإن كان مردودا عندنا إلى الصّرف ، فالتّعذّر حاصل. كما لم يختلف ما تعذّر فعل جنسه ، وما تعذّر فعل مثله في بعض صفاته في الوصف بالإعجاز ، وإن كان سبب التعذّر مختلفا.
فإن قال : الأمر وإن كان في لفظة «معجز» أو أصلها وما انتقلت إليه ، على ما ذكرتموه ؛ فإنّ المعجز من شرطه ـ في الاصطلاح ـ أن يكون خارقا للعادة ، وإلّا لم يكمل له الوصف بأنّه معجز. وليس القرآن عندكم خارقا للعادة ، اللهمّ إلّا أن تحملوا نفوسكم على ادّعاء ذلك ، وتتأوّلوا أنّ مثله في الفصاحة والنّظم لمّا لم يقع يجب أن يكون خارقا للعادة. وهذا من التأويل البعيد ؛ لأنّ فصاحته عندكم معتادة فلا كلام فيها ، وطريقته في النّظم ـ وإن لم تعهد ـ فهي كالمعهودة من حيث كان
__________________
(١) في الأصل : كذلك ، والمناسب ما أثبتناه.
(٢) في الأصل : يقال ، وما أثبتناه مناسب للسياق.