تقع للتعذّر دون شيء من هذه الأعذار المدّعاة. وكان ما قصدنا (١) به إلى التعذّر إنّما هو للصّرفة لا لفرط الفصاحة ، فليس يجوز أن تتعلّق بشيء من ذلك وتجعله عذرا في ترك المعارضة الّتي ألزمنا وقوعها من يخالف في الصّرفة ، ويوافق في جملة إعجاز القرآن ، لأنّه راجع عليه وعائد إليه.
والجواب عن هذه الشّبهة مستقصى في الكتب ، وقد مضى في أثناء كلامنا في هذا الدليل ما إن حصّل أمكن أن تسقط به جميع هذه الشّبهات ونظائرها.
فإن قال قائل : إنّ العرب كانوا يعلمون ضرورة فرق ما بين فصيح كلامهم وفصاحة القرآن ، فكيف تدّعون مع ذلك ـ في شيء من كلامهم ـ أنّه مساواة ، والجمع الكثير من العقلاء لا يجوز عليهم ادّعاء ما يضطرّون إلى بطلانه ، وإنكار ما يضطرّون إلى صحّته؟!
ولو جاز على الجماعات مثل هذا لم ننكر أن يسأل إنسان بمدينة السّلام عن الجسر (٢) ، ويسترشد إليه ، فيخبره جميع أهلها أو جمهورهم بأنّه في خلاف جهته ، أو يجحدونه وجود الجسر جملة! وإذا استحال هذا فالأوّل مثله.
قيل له : هذه الدّعوى على النّاس الّتي ذكرتها ، من المتكلّمين ، وجعلوها أسّا وعمادا ، وهي مع ذلك غير صحيحة ، ولا خافية الفساد.
وليس يمتنع أن يجتمع العقلاء الكثيرون على إنكار ما يعلمونه ضرورة ، والإخبار بما يعلمون خلافه ضرورة ، إذا اجتلبوا بذلك نفعا ، أو دفعوا به ضررا. لأنّا
__________________
(١) في الأصل : قصدنا ، والظاهر ما أثبتناه.
(٢) يشقّ نهر دجلة مدينة السّلام بغداد ويجعلها نصفين : الكرخ في الجانب الغربيّ ، والرصافة في الجانب الشرقيّ ، ويربط الجانبين جسر ورد ذكره في كتب التاريخ والخطط ، هو الذي أشار إليه عليّ بن الجهم في رائيّته المشهورة :
عيون المها بين الرّصافة والجسر |
|
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري |