واحد. فلذلك ينبغي ألا ينظر في علم بدء الخلق وما جرى مجراه من التواريخ ، إلا بعد النظر في علم الأحكام وإتقانه.
ثم ظهر لي بحمد الله وجه آخر ، أكثر إتقانا مما تقدم. وهو أنه لما ذكر في سورة المائدة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) [الآية ٨٧] إلى آخره ، فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله افتراء عليه ، وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا مما أحل الله ، فيشابهوا بذلك الكفار في صنيعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز ، ساق هذه السورة لبيان ما حرمه الكفار في صنيعهم ، فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل ، ثم جادلهم فيه ، وأقام الدلائل على بطلانه ، وعارضهم وناقضهم ، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة (١) فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته المائدة من ذلك على سبيل الإجمال ، وتفصيلا وبسطا ، وإتماما ، وإطنابا.
وافتتحت بذكر الخلق والملك (٢) ، لأنّ الخالق والمالك هو الذي له التصرّف في ملكه ، ومخلوقاته ، إباحة ومنعا ، تحريما وتحليلا ، فيجب ألّا يتعدّى عليه بالتصرف في ملكه.
وكانت هذه السورة بأسرها متعلقة بالفاتحة ، من وجه كونها شارحة لإجمال قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢). وللبقرة من حيث شرحها لإجمال قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١]. وقوله جلّ وعلا : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩]. وبال عمران من جهة تفصيلها لقوله تعالى : (وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ) [آل عمران : ١٤]. وقوله جلّ وعلا : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥]. وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق ، والتقبيح لما حرموه على أزواجهم ،
__________________
(١). وهذا البيان الكامل في قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) [الآية ١٣٦] إلى (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (١٣٩).
(٢). وذلك قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الآية الأولى] إلى (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) (٣).